يعيش لبنان على وقع أجواء أزمة متفاقمة تذكّر البعض بفترة الحرب الأهلية (1975 – 1990)، فيما يذهب آخرون إلى اعتبارها أشدّ وقعا بالنظر إلى ملابسات الأزمة وتعقيداتها وارتباطها بالوضع الإقليمي العام وتغير معطيات كثيرة تحيط به؛ وكان متوقّعا أن تشتدّ الأزمة على لبنان كلما اشتدّ الوضع في سوريا. وضاقت الدائرة على لبنان، فكان لا بدّ من تدخل سعودي جديد، اختلف هذه المرة عن التدخل الذي أسفر عن نهاية الحرب الأهلية باتفاق الطائف، حيث فرضت الأحداث المترابطة في المنطقة وتداخل بعضها ببعض نتيجة السياسات الإيرانية وأيضا نتيجة ثغرات في السياسات السابقة للقوى الإقليمية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، مراجعة المواقف والتدخلات وطرق التعامل مع الملفات الإقليمية ومكوناتها والأطراف المعنية بها. وكما صرّح خبراء لـ”العرب” فإن الدولة الوطنية، في لبنان، وأيضا في دول عربية أخرى، فشلت في احتواء مكوّناتها، وهذا السبب وفّر موطئ قدم لطهران لتتغلغل في كثير منها إلى حد وجب تصحيح المسارات وتغيير السياسات واتخاذ قرارات حاسمة حتى وإن بدت صادمة للحلفاء قبل الخصوم.
قبل أيام انشغلت الأوساط اللبنانية بالبيان الذي وزّعته أوساط قريبة من حزب الله نقلا عن مصادر أمنية لبنانية يزعم أن الناطق الرسمي بإسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي بات يشرف بشكل دوري على ما يُنشر في موقع “جنوبية”.
أتى هذا الانشغال ليس لصدقية في مضمون البيان، بل علامة خطيرة من علامات موقف حزب الله المقبل من منابر الاعتراض داخل الطائفة الشيعية، والتي بدا أن اتهامها بالتعامل مع إسرائيل، يحضّر لتدابير لإسكات الأصوات الشيعية المتمردة على إرادة الحزب، من خلال إلصاق تهم العمالة والتخوين، وما يحمله مضمون هذه الاتهامات من تحريض داخل الطائفة الشيعية ضد أطراف شيعية معيّنة.
يدير موقع “جنوبية” الصحافي اللبناني علي الأمين نجل العلامة السيد محمد حسن الأمين، والذي يشكّل وشريحة واسعة داخل الطائفة الشيعية ظاهرة اعتراض حاد ضد حزب الله. كانت أصوات الاعتراض الشيعي جزءا أساسيا من حراك “14 آذار”، ولطالما كيلت لها النعوت تلو النعوت مقللة من أهمية جهدها ووقع مسعاها. فقد اتهمت أوساط الحزب أصحاب هذا الاعتراض بأنهم ليسوا شيعة، أو أنهم شيعة السعودية والقاعدة، ونعتهم السيّد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، بأنهم شيعة السفارة، غمزا من قناة السفارة الأميركية في بيروت.
على أن حالة الاعتراض الشيعي عانت من عزلتين مختلفتين، عزلة عن عامة الشيعة الملتفّين بقوة حول ما يطلق عليه بالثنائي الشيعي، حزب الله بقيادة نصرالله وحركة أمل بقيادة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، وعزلة أخرى من خصوم حزب الله في لبنان، لا سيما المتجمعين تحت سقف “14 آذار”، ذلك أن هذا التحالف، وإن افتخر بوجود المعارضين الشيعة في صفوفه، إلا أنه اعتبرهم صوتا هامشيا، وأمعن في التعامل مع الثنائي التقليدي في عمليات إنتاج السلطة، سواء من خلال الانتخابات، البرلمانية والبلدية، أو من خلال تشكيل الحكومات.
لكن الإشكالية الأعقد هي التي واجهت شرائح الاعتراض الشيعي مع المملكة العربية السعودية، ذلك أن الرياض، والتي استثمرت الكثير في دعم حلفائها في لبنان، وفي مقدمهم تيار المستقبل وأحزاب مسيحية، لم تعر حالة الاعتراض الشيعي الأهمية الضرورية، مقابل الإمكانات الهائلة التي يتمتّع بها حزب الله. وبقي تعامل الرياض مع الشخصيات الشيعية المعترضة شكليا، لا يتجاوز، أغلبه، الدعوات التي توجه لشخصيات لبنانية لزيارة الرياض في مناسبات عامة. وإذا ما سجلت الأوساط المعترضة داخل الطائفة الشيعية دعما سعوديا معيّنا لخصوم الحزب، فإن ذلك كان يصل بشكل فردي ومزاجي تشوبه طقوس العلاقات العامة، وكثيرا تطال المنابر والأهداف الأقل تمثيلا لظاهرة الاعتراض عند الشيعة.
في هذا الصدد وقف العلامة الراحل السيّد هاني فحص، وكان واحدا من الأصوات العالية المعارضة لحزب الله، على منبر أحد المؤتمرات التي دعي إليها في دولة خليجية، يشكر المنظمين على الدعوة الخجولة له لحضور المؤتمر، غامزا من أنّ اختياره ليكون آخر المتكلّمين في ذلك المؤتمر وفي ساعاته الأخيرة، يعكس رغبة تجميلية شكلية فقط لكسر الرتابة، من خلال حضور رجل دين شيعي. كان في ذلك يعبّر عن مرارة من تعامل الحليف بعد المرارة التي يعامله بها الخصم.
عتب على الرياض
مصطفى فحص، نجل السيّد هاني فحص باحث وكاتب سياسي يحمل لواء الاعتراض الذي حمله والده الراحل ويعبّر في حديثه لـ”العرب” عن حساسية العلاقة مع المملكة العربية السعودية وهو فوق ذلك يعتبر أن “العلاقة بين المعارضة الشيعية والسعودية علاقة جدلية أو معقدة أو مركبة”. يقول مصطفى فحص إنه “من طبيعة المملكة في السّنوات السابقة، أنها كانت تتجه للتعامل مع من كانت تعتقد أنهم يمثّلون البيئات أو الدول أو الجماعات، باعتبار أنها تتعامل مع الجهات الرسمية، وهذا ما جعل المملكة تستثمر مع أحزاب لبنانية شيعية اعتقدت أنه بالإمكان التعويل عليها من أجل استقرار لبنان، أو في صون العلاقة الهادئة مع المملكة. لكن عندما اضطربت الأمور، ووصلت إلى هذا الحدّ، ذهبت هذه الأحزاب والشخصيات إلى عصبيّاتها المذهبية والطائفية وكأنّ كل العلاقة الإيجابية التي بنيت مع السعودية ودول الخليج لم تكن”.
يعبّر الباحث السياسي الدكتور حارث سليمان عن عتب على السياسة السعودية مذكّرا بسلسلة من الحلقات التي أوصلت الأمور إلى مآلاتها الراهنة. يعتبر سليمان “أنه، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن مجمل السياسات السعودية التي تم تنفيذها من قبل تيار المستقبل وبعض قوى 14 آذار، سواء هذه القوى كانت تريد هذه الخيارات أو كانت تنفّذ بطلب سعودي، كانت أيضا لا تستشعر الخطر الحقيقي من هذه السياسات ومن تنامي حزب الله في لبنان”.
ويذكّر الدكتور سليمان، وهو أيضا عضو اللجنة التنفيذية في حركة التجدد الديمقراطي، بـ”التسوية التي عقدت عام 2005 مع حزب الله، فأصبح الحزب شريكا في الحكومة، وهو لم يدخلها أيّام الوصاية السورية. كان هذا برضى سعودي إيراني وبرضى 14 آذار”. ويضيف سليمان أنه “أتت محطة التحالف الرباعي بعد ذلك، والذي عمليا استبعد المكوّن الشيعي الذي شارك في ثورة الأرز وفي انتفاضة 14 آذار، وذهب للاعتراف بحزب الله وحركة أمل بأنها يمثلان كل الشيعة. مما جعل حزب الله يستطيع التحدث باسم طائفة بأكملها وأن يتمترس داخل هذه الطائفة ويجعلها له غطاء، ليس سياسيا، وإنما غطاء مذهبيا”.
يستفيض سليمان في التذكير بما حصل في الدوحة “من مشاركة سعودية قطرية أميركية، حيث تمّ الاعتراف بحقّ الفيتو لحزب الله داخل مؤسسة المجلس” والضغط على تيار المستقبل لإهمال خيار شخصية مرموقة هو باسم السبع وإمكانية انتخابه بديلا عن نبيه بري لرئاسة مجلس النواب.
يسرد الدكتور حارث سليمان سلسلة لا تنتهي لا سيما تلك التي جرت “بعد انتخابات 2009 التي فاز بها تحالف 14 آذار، حيث طُلب من سعد الحريري أن يمدّ يده إلى حزب الله للمشاركة في الحكومة، كما أُجبر على الذهاب إلى دمشق والنوم في قصر قاتل والده”.
وفي ما يسرده سليمان، يضيف مصطفى فحص، وهو أيضا عضو الأمانة العامة لقوى 14 آذار، ما يعكس إهمالا سعوديا لخيارات داخل الطائفة الشيعية بديلا، أو حتى موازيا، للثنائي الشيعي التقليدي. يقول فحص “إن المعارضة الشيعية اللبنانية التي وجدت قبل عام 2005، عام اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي تعارض الثنائية الشيعية المسيطرة، لم تحظ بأيّ إيجابية حقيقية أو احتواء أو تعامل من قبل السعودية أو من دول الخليج أو من دول عربية أخرى”.
ويخفّف فحص من وطأة هذا العتب مضيفا “أنا لا ألوم المملكة ولا ألوم الشّيعة المعارضين لكنّي أعتقد أنه المملكة لم يكن لديها مشروع، حتى، للسنّة سابقا ليكون لديها مشروع للشيعة في لبنان. ورأينا في السنوات الأخيرة ما جرى للحالة الداخلية لتحالف 14 آذار وتيار المستقبل، وكم تمّ إضعاف سعد الحريري لدرجة إشاعة أنه غير مرغوب فيه في الرياض”.
يقول الدكتور حارث سليمان إن خيارات السعودية وتحالف “14 آذار” لم تثن المعارضة الشيعية عن الصمود والاستمرار في إعلاء صوتها، ويذكّر أنه “خلال تلك المراحل كان صوت الاعتراض الشيعي يتمظهر عبر حركات وشخصيات كثيرة. في 7 أيار برزت ردّة فعل السيّد علي الأمين مفتي صور الذي تمّ إخراجه من مقره وإبعاده ولم يجر احتضانه. ثم بعد ذلك جرى اعتراض شيعي كبير تجمع في الكومودور، ومع ذلك ورغم صدور بيان عن مئة شخصية شيعية ضد ممارسات حزب الله يدعم الجيش ويدعم الدولة ويريد الدولة المدنية، لم يلق هذا التجمع أيّ دعم ولم يجر أيّ تعامل معه.
بعد انطلاق الثورة السورية تحرّك الاعتراض الشيعي، من خلال الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق لحزب الله، والذي جاهر باستنكار مشاركة حزب الله في سوريا والتحرك لتوعية حزب الله والرأي العام الشيعي. ثم الشيخان الجليلان المرجع السيّد محمد حسن الأمين والسيّد هاني فحص اللذان أصدرا وثيقة سياسية وفكرية حول الموقف الشيعي من تورط حزب الله في سوريا. تعرضت شخصيات الاعتراض لحملات التخوين لا سيما تلك الصحفية التي توّلتها جريدة الأخبار القريبة من حزب الله”.
يقول سليمان في معرض آخر إنه تم تشكيل تجمع لبنان المدني، وهو يضم شخصيات من طوائف مختلفة بثقل شيعي، وأيضا لم يتم التعامل معه ولم يتم احتضانه من أحد. ورغم تصاعد وتيرة الاعتراض الشيعي، يلاحظ سليمان “فوجئنا منذ أشهر بما قاله الصحفي السعودي داوود الشريان من أن لا اعتراض شيعي على سياسة حزب الله، وكأنهم لا يرغبون أن يروا هذه المعارضة الشيعية”.
قلق شيعي
من حديث الدكتور سليمان يرشح ما يفيد أن حالة الاعتراض تحتاج إلى دعم واحتضان وسقف عربي إذا ما أريد لهذا الاعتراض أن يقاوم الهيمنة الإيرانية على الشيعة في لبنان، فإمكانات حزب الله، حسب ما يراه، “لا تقتصر على الدعم الإيراني الكبير، بل أيضا على إمكانات الدولة اللبنانية، ذلك أن الوزارات والمؤسسات تُسخّر لتأمين خدمات يجيّرها الحزب داخل الطائفة الشيعية لتحسين وضعه واستدرار عطف الناس عليه. واستطاع الحزب أن يحوّل مال البلديات إلى مال سياسي وزعه على محاسيبه وفي سبيل خططه السياسية والانتخابية، حتى أن مؤسسة USAID الأميركية كانت تموّل مشاريع لصالح بلديات يسيطر عليها حزب الله”.
ويطالب مصطفى فحص “بتصحيح العلاقة بين الشّيعة ودولهم الوطنية. حقّ المواطنة هو حقّ للجميع. هناك دائما قلق شيعي مردّه أن دولنا الوطنية فشلت في احتواء مكوّناتها، وهذا السبب وفّر موطئ قدم لطهران لتتغلغل في كثير من الدول العربية حيث العلاقة متوتّرة بين الدولة وبين الشيعة”.
ويرى فحص أنه “على السعودية أن تدعم المعتدلين من السنّة كما الشيعة، ولا خيار أمامها إلا دعم الاعتدال والقيام بخطوات جبارة وجريئة في البحرين وفي السعودية وفي أيّ مكان عربي من أجل دعم الاعتدال الشيعي في هذه المنطقة، وإلا فإنّ هناك مزيدا من التأزم ومن الصائدين في الماء العكر الذين سيستغلون هذه الظروف ضد المملكة لتتحول الأزمة إلى سنية شيعية وليست عربية إيرانية، وهذا ما يريح طهران ويدفع كل الشيعة إلى حضنها.
وفي السياق الحالي يرى الدكتور حارث سليمان أن “السعودية محقّة في تقديرها وتوصيفها للخطر الإيراني على المنطقة، ومحقّة في مجابهة هذا الخطر في كل الأماكن، سواء في اليمن أو في سوريا أو في العراق.. الخ. لكن السّياسة السعودية قبل ‘عاصفة الحزم’ كانت قد أدارت الظهر لهذا الخطر الإيراني في مواقع عديدة، لا سيما في العراق في مواجهة ما كان يسمّى بالتواطؤ الأميركي الإيراني في العراق، وتمّ تسليم العراق إلى إيران لقمة سائغة بعد احتلاله من قبل الأميركيين. ثم أخطأت في سياستها اللبنانية، بمعنى أن الوصاية السورية التي فرضت على لبنان خلال ثلاثين سنة كانت تتمتع برضى سعودي، ما مكّن إيران وسوريا من بناء منظومة كبيرة عسكرية سياسية إعلامية جماهيرية جعلت من حزب الله رقما صعبا في الساحة اللبنانية”.
تصحيح المسار
يشاطر فحص سليمان في هذا السياق ويقول “تأخرت الرياض عن العراق عشر سنوات، وهذه السياسات جعلته بيد طهران. تأخرت الرياض عشر سنوات عن دعم وتطمين واستقطاب المعارضة الشيعية في لبنان فدفعت الشيعة بأن يكونوا الآن في غالبيتهم بيد حزب الله وطهران”. يضيف فحص قائلا “الآن لا بد للأمور أن تتغير. السعودية مطالبة بأن تحمي جبهتها وبأن لا يذهب الكلام إلى صراع سنّي شيعي وأن يكون الكلام هو صراع عربي إيراني. فعندما يكون الصراع عربيا إيرانيا يتيح ذلك للمملكة أن تتكلم باسم جميع المكونات العربية الإسلامية والمسيحية وتدافع عنها”.
يعود الدكتور سليمان إلى لبنان ليلاحظ بأنه “اليوم نرى استفاقة من سياسة أدارت الظهر لهذا الخطر. النهج الجديد اليوم يريد أن يحمّل لبنان وزر هذه السياسة. في الحقيقة وصل لبنان إلى هنا لأن هناك خللا في ميزان القوى وليس هناك توازن سياسي وعسكري واستراتيجي في لبنان. بين حزب الله وحلفائه والقوى المناهضة له. لذلك فإن الوعي بخطورة حزب الله والنفوذ الإيراني يتطلب إعادة النظر بالسياسات التي أوصلتنا إلى هنا. ما يتطلب وضع مشروع سياسي وخطة حقيقية عربية لتعديل ميزان القوى الداخلي في لبنان وفي الثورة السورية وتعديل ميزان القوى الإقليمي”.
والواضح أن عتب المعارضة الشيعية يأخذ هذه الأيام أشكالا تتسق مع تبدّل المزاج السعودي إزاء لبنان، بحيث أن شريحة الاعتراض الشيعي تشعر أن الرياض تستجيب لخطاب المعارضة الشيعية، التي لطالما دعت للتعامل بحزم ووضوح لمقاومة تغوّل حزب الله ووقف التعامل معه بصفته حالة تمثيلية قدرية لا طائل من مواجهتها، إلى درجة تفاقم الأمور ووصولها إلى حدّ المواجهة التي تخوضها السعودية بالتضامن مع دول الخليج ومع الدول العربية، والذي تمثّل مؤخرا بالتطور النوعي من خلال اعتبار حزب الله منظمة إرهابية. في ذلك تفريق رسمي علني من قبل البيئة العربية بين الشيعة العرب وشيعة إيران”.
التعليقات مغلقة.