تبدع بعض الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي في اختلاق الأساطير، وتلعب على وتر استغلال سذاجة البعض وتدنّي مستواهم الثقافيّ والاجتماعيّ لتحقيق مآرب وغايات ربحيّة بحتة.
حتّى إن العديد منها قرّر في الأسابيع المنصرمة اختلاق أكذوبة ماكرة عنوانها: “بعض أنواع الفاكهة المستوردة الى لبنان والبلدان العربيّة محقونة بفيروس السيدا”. للوهلة الأولى، الخبر صادم. وإذا كان المواطنون معتادين على اللهو بحساباتهم الرقميّة، بدل الاستفادة البنّاءة منها، سيلجأون الى إعادة النشر والتصديق والتهويل، دون تفكيرٍ أو علمٍ مسبق بأنهم بذلك يشاركون في التحريض على ارتكاب جريمةٍ الكترونيّة.
وإذا كان الهدف من تناقل الصور، الإستفسار عن حقيقة الموضوع، فإن الأجدر بـ”روّاد العصور المظلمة الإفتراضيين” أن يكلّفوا أنفسهم عناء الإتصال بالطبيب المختصّ والسؤال عن حقيقة الوضع. لكن المؤسف، أنهم ينسون ما اقترفوه بعد دقائق. لا بل إنهم ولو صادفوا “موزة حمراء” ربّما لتناولوها بهدوءٍ وسكينة.
لكن أكثر ما يثير السخط في هذه المعمعة، هم أولئك الذين يستغلّون صور ذوي الحاجات الخاصّة، فينشرونها بهدف شهرة صفحتهم ويكتبون لك فوق الصورة: “يا رب اقطع يدي ورجلي واحرق وجه كلّ من يرى صورة هذا الصبيّ المسكين ولا يضغط لايك ويكتب تعليق بهدف شفائه”. المخجل أكثر، هو الأعداد الهائلة و” بالملايين” من أزرار الإعجاب وآلاف التعليقات التي تسجّل، ليس تعاطفاً مع الولد، بل خوف من أن تنقلب عليهم تعويذة الصورة. وماذا عسانا نعلّق على هذه التعليقات الساذجة، سوى بعبارة: “لا تعليق”.
فيروس الإيدز لا يعيش خارج جسم الإنسان
جاء في الخبر المتناقل في مواقع التواصل الإجتماعي، والذي أرفق بصورة فاكهة الموز وهي تحقن بالدماء، التعليق التالي: “إذا تبيّن لكم عند تقشير فاكهة الموز أنها تحتوي على لونٍ أحمر فلا تأكلوها لأنها حاملة لفيروس السيدا، فهناك شركات تعتمد على تلقيح هذه الفاكهة بدماء تحمل الفيروس السابق الذكر وبعد حقنها، يدخلونها في حاويات للتبريد حتى يظهر لآكلها أنها نقطة حمراء صغيرة ولا يعيرها اهتماماً. المرجو أن يعمّم هذا الإعلان الذي يحمل التحذير”.
ولمعرفة مدى صحّة المعلومات الطبيّة الواردة في الصورة، اتّصلت “النهار” بالإختصاصي في الطب الداخلي في مستشفى القدّيس جاورجيوس الدكتور فريد معلوف الذي أكّد أن “مرض السيدا لا ينتقل عبر الطعام، وهو لا يعيش سوى في جسم الإنسان، ويموت بعد ثوانٍ أو دقائق من خروج الدمّ من الجسم، وبالتالي فإن هذه الأخبار عارية من الصحّة. ويشير الى أن “انتقال العدوى يحصل من خلال العلاقات الجنسيّة بشكلٍ خاص، في حين أن إمكانيّة انتقاله بالدم باتت ضئيلة لأن المستشفيات تتنبّه الى هذا الموضوع”.
وفي إطارٍ متّصل، ينفي الاختصاصي في الطب الداخلي في مستشفى جبل لبنان الدكتور جهاد شقير لـ”النهار”، “إمكان تصديق هذا الخبر المغلوط والعارٍ من الصحّة”، ويشير الى أنه “حتّى وان تمّ حقن الفاكهة بالفيروس، فإنه سيموت بعد ساعة في الأكثر بعد خروجه من جسم الإنسان. كما أن السيدا هو أسرع أنواع الفيروسات التي تموت خارج جسم الإنسان. وبالتالي، وإن سلّمنا جدلاً بأن هذا الخبر صحيح، فإنه بالتالي لن يؤدّي الى إصابة الإنسان بالإيدز في حال تناول هذه الفاكهة، بل سيؤدّي الى تلف الثمرة وعفنها”.
ويعتبر أنه “وفي حال حقنت الفاكهة بالسائل المنوي لشخصٍ مصابٍ بالفيروس، فإن ذلك سيؤدّي الى تغذية الفاكهة وربّما زيادة حجمها، ولن يؤدّي أبداً الى إصابة متناولها بالإيدز، لأن ما يصحّ على الدم في هذا الخصوص، يصحّ أيضاً على السائل المنوي، والفيروس في كلتا الحالتين يموت بعد دقائق من خروجه من جسم الإنسان. وأنا أعتقد أصلاً أن هذا الخبر ملفّق ومفبرك “. ويلفت الى أن “على المواطنين تدارك الإرتدادات الصحيّة التي تؤثّر على صحّتهم في حال تناولوا ثمار مرويّة بالصرف الصحيّ التي يستخدمها المزارعون عوضاً من شراء السماد ما يساهم في إنضاج الفاكهة، أو في حال تأذّت من #التلوّث الناجم من أزمة النفايات الحاليّة”.
ويلخّص العوارض الصحيّة التي تنتج من تناولها “بالحمّى التيفوئيديّة، والتي على عكس الإيدز، تعيش في الفاكهة والخضار، وهي قويّة وتأتي من الفريز والبندورة والخيار على وجه الخصوص”. ويشير الى أن “على المواطن هنا اتخاذ العديد من الإحتياطات لتفادي المرض، ومنها غسل الفاكهة جيّداً بالمياه وتقشيرها بدلاً من تناولها مع القشرة رغم الألياف التي تحتويها، لكن الواقع البيئي في لبنان بات حرجاً”. ويؤكّد على ضرورة استشارة الطبيب المختصّ قبل المبادرة في تصديق أي خبر يصدر عشوائيّاً.
خبر ملفّق
للتأكّد من فاعليّة رقابة وزارة الزراعة على المنتوجات الزراعية المستوردة من الخارج ولتبيان حقيقة استيراد فاكهة محقونة بفيروس الإيدز، أجرت “النهار” حديثاً مع رئيسة مصلحة رقابة النبات في وزارة الزراعة ورئيسة مركز جبيل الزراعي الأستاذة سيلفانا الحدّاد التي تؤكّد أن كلّ ما يتداول عن استيراد فاكهة ملوّثة ” أمرٌ عارٍ من الصحة وهو مجرّد خبر ملفّق”.
وتضيف: “لدينا مراكز متخصّصة للحجر الصحي النباتي الزراعي، حيث يتوجّب على كلّ المرافئ العاملة من مرفأ طرابلس الى مرفأ بيروت إضافةً الى المطار التي نستورد منها #الفاكهة أن تدقّق في البضاعة المستوردة. وقد ذهب فريق مؤلّف من 15 مهندساً ومساعداً فنّياً الى ايطاليا وبلغاريا العام المنصرم وتمرّنوا على كيفيّة فحص المنتوجات المستوردة وكيفيّة أخذ العيّنات وتبيان ما إذا كانت غير مطابقة. وإذا ما تبيّن أن هناك حاجة للتدقيق أكثر بالشحنة، نرسلها الى مختبر مركزي في منطقة كفرشيما تابع لوزارة الزراعة”. وتؤكّد أن “كلّ شحنة غير مطابقة للمواصفات المطلوبة ممنوع عليها دخول الأراضي اللبنانيّة”.
وتطمئن اللبنانيين إلى أن “منظّمة أغذية الزراعة العالميّة تصرّح دائماّ في حال توافر لديها معلومات عن أي خلل يعتري منتجاً مستورداً”. وتشير الى أن “لبنان بلد ينتج الحمضيّات بامتياز ونحن لا نعطي تراخيص لاستيرادها. أما الموز فنأخذ منه عيّنات دقيقة ونفتّشه وفق الأصول، لذلك لا يجب على المواطنين أن يهلعوا لأن كلّ شيء تحت السيطرة”.
كلّ مواطن صحافيّ
قد لا يعي بعد المواطنين المسؤوليّة الكبيرة التي يتحمّلونها تجاه الرأي العام والقانون عندما يبادرون الى نشر أخبارٍ وأفكارٍ غير دقيقة. وهم قد لا يدركون مدى الخطأ الذي يقترفونه، سوى في حال تمّ سوقهم الى المحاسبة. وفي هذا السياق، يعتبر الخبير في وسائل التواصل الاجتماعي الأستاذ فيليب أبو زيد في حديثٍ لـ”النهار” إلى أن “المشكلة الأساسيّة تكمن في أن وسائل التواصل الإجتماعي أعطت إمكانيّة لكلّ شخص في أن يتحوّل وسيلة إعلاميّة من خلال التصوير والنشر الإلكتروني وبات كلّ مواطن عبارة عن صحافيّ، في حين أن هذه التقنيات مرتبطة بأهل الاختصاص”.
“لماذا لا تتحمّل شريحة واسعة من #المجتمع_اللبناني مسؤوليّتها تجاه مواقع التواصل الإجتماعي؟”. يجيب أن “المواطن يخال أن اختباءه خلف شاشة الحاسوب يؤمّن له الحماية لأنه لا يكون على تواصل مباشر مع الآخرين، كما أن ضعف المستوى الثقافي والعلمي لدى البعض يزيد من حجم تهوّرهم ولا يسمح لهم بالتعاطي مع هذه المعارف بجدّيّة.
لكن على الجميع أن يعي أن الحياة الافتراضيّة تحمّله مسؤوليّة مضاعفة عن تلك التي يتحمّلها في حياته العاديّة. وعليهم أن يعوا أن نشر الأخبار المغلوطة من دون التأكّد من صحّتها قد تعرّضهم للملاحقة القانونيّة لأن المحرّض في القانون يتحمّل مسؤوليّة الى جانب المنفّذ”. ويؤكّد أن ” مواقع التواصل ليست حكراً على طبقة معيّنة أو مستوى ثقافي معيّن، لكن علينا أن نبادر في تثقيف الناس لإدراك حقوقهم وواجباتهم واحترامها”.
ويقارن بين ماهيّة استخدام وسائل التواصل الإجتماعي بين لبنان والبلدان الغربيّة المتطوّرة: “التكنولوجيا الرقميّة تعكس ثقافة المجتمع بشكلٍ عام، وهي في الغرب تستخدم لأغراضٍ تثقيفيّة وأهداف إيجابيّة، في حين صورتها تظهر في لبنان تحت إطار التشهير بالآخر والتقاط الفضائح الفنيّة وغيرها بهدف الإثارة لا أكثر”.
لعلّ شريحةً واسعة من اللبنانيين تفضّل المواجهة من خلف الشاشات الرقميّة. حتّى إن خبراً ضعيف البنية كهذا أثّر بهم أكثر من تأثير المخاطر الحقيقيّة لأزمة النفايات. المهمّ أن لا تحوي الموزة على “الزيح الأحمر” القاتل. والأهمّ أن نتجنّب خطراً عمّم أنه قادم من بلادٍ بعيدة حاملاً معه الويلات. ولو أن مجتمعنا يعي اليوم أنه بات، ويا للأسف، لا يستورد الويلات والمصائب… بل يصدّرها.
التعليقات مغلقة.