للمرّة الأولى بعد 16 عامًا على الإنسحاب الإسرائيلي التاريخي من لبنان، كشف كتاب جديد لرئيس لواء الأبحاث الأسبق في شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”، عاموس جلبوع أسرارًا عن كيفية الإنسحاب وما حصل قبله وبعده، لافتًا إلى شرخ كبير حصل بين المؤسستين العسكرية والسياسية حينذاك، فمن ناحية أراد رئيس الوزراء ووزير الدفاع إيهود باراك تنفيذ وعده بإخراج جنوده من لبنان، وفي الجهة المقابلة إعترض الجيش الإسرائيلي وأجهزة الإستخبارات على الإنسحاب من دون إتفاق مع سوريا، الأمر الذي لم يستطع باراك تنفيذه، وصولاً إلى الفشل الذي إعترف به القادة الإسرائيليون.
وبحسب جلبوع، ففي أيار من العام 2000، أخذ باراك قرارًا فاجأ به العالم أجمع وهو إنسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان بعد احتلال دامَ 18 عامًا. ولكن وراء الكواليس كان هناك معركة بين باراك ورئيس الأركان بالجيش الإسرائيلي وكبار الضباط الذين عارضوا الإنسحاب بشدّة.
في الكتاب الجديد إستند جلبوع على بحوث سرية داخلية، نفذها لصالح الإستخبارات، وكشف خلاله عما وراء القرار التاريخي والأكبر في تاريخ الجيش الإسرائيلي لعقود مضت.
رسالة مدير الإستخبارات
وفي التفاصيل، في 27 شباط 2000، سلّم جندي رسالة في مغلّف مغلق جيدًا، وعليه ملاحظات وتحذيرات عن مدى حساسية مضمونه، وطبيعته السرية، من مكتب الإستخبارات العسكرية إلى وزارة الدفاع، الرسالة كانت موجهة إلى باراك، (رئيس الوزراء ووزير الدفاع) حينذاك، وجاء فيها أنّ عدم طلب تقييم من مديرية الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية “AMAN” حول الإنسحاب من لبنان قبل مناقشات الحكومة يشكّل خللاً في العملية، ويقلّص التقديرات الحكومية اللازمة لاتخاذ القرار كما ويقوّض من دور مديرية الإستخبارات كمقيم وطني”.
مرسل الرسالة كان مدير “AMAN” الجنرال عاموس مالكا، الذي عاتب وأنّب باراك حيث قال له: “لأوّل مرة منذ تشكيل الحكومة الحالية، تتم مناقشة قرار كبير بانسحاب آحادي الجانب من لبنان. إنّ الجيش الإسرائيلي والإستخبارات لم يدعيا للمناقشة من أجل تقييم الأوضاع. هذا الأمر غريب جدًا. كيف يمكن ألا تسأل مديرية الإستخبارات عن رأيها. هذا الأمر يقوّض المناقشة المقبلة عن الإنسحاب”. وتابع مالكا: “رئيس الحكومة، وزير الدفاع والحكومة لم يطلعوا أو يتعمقوا بالبيانات الإستخباراتية. من الواضح أنّ تقييم Aman لن يرضي بعض أعضاء الحكومة عن الإنسحاب. لكن نصرّ على تقديم التقييم. يمكنكم معارضته، قبوله أو إنتقاده، لكن لا يمكن منع وصوله إلى الحكومة وعرضه”.
هذه الرسالة كانت جزءًا من تصاعد التوترات بين باراك ومالكا، وفي الأساس بين باراك وقيادة الجيش الإسرائيلي وكبار ضباطه. الرسالة ومقتطفاتها في كتاب جلبوع “القصة الحقيقية للإنسحاب الإسرائيلي من لبنان (أيار 2000) والمسماة فجر”. وتلقي الرسالة الضوء على إحدى الأزمات، لكن ليس بالضرورة أشدّها، بين الجيش الإسرائيلي وباراك حول الإنسحاب من لبنان. وبحسب جلبوع -الذي ترأس قسم الأبحاث في Aman في أوائل 1980، ويعدّ أحد العقول الأكثر معرفة بتاريخ المؤسسة الإستخباراتية في إسرائيل- فإنّ “باراك وعدَ الناس أنه سيغادر من لبنان فيما معظم الجنرالات في الجيش الإسرائيلي عارضوا هكذا خطوة، إذا لم يكن جزءًا من الإتفاق مع سوريا”.
وقال جلبوع إنّه لم يمر أمامه مثيلاً لرسالة مالكا، وكانت بمثابة توبيخ من المؤسسة العسكرية للمؤسسة السياسية على سلوك غير صحيح، وهذه المرة الأولى التي تسرب إلى الصحافة معلومات عن “الإنفصام” بين المؤسستين والذي سيصبح فيما بعد أكثر عمقًا.وقد قام خلال 15 عامًا، بكتابات وإعداد تقارير إستقصائية لـAman، بالإستناد إلى مناقشات منهجية، تساعد على استخلاص الدروس من الأحداث التاريخية الناجحة والفاشلة، من حكومة إسرائيل واستخباراتها.
وحول أبحاثه عن الإنسحاب في لبنان، تمكّن جلبوع من الوصول إلى جميع الوثائق والتسجيلات والنصوص المكتوبة، وملخصات نقاشات (بما في ذلك مذكرات شخصية مفصّلة لرئيس الأركان السابق شاوول موفاز)، كما أجرى مقابلات مع جميع الأطراف المعنية. وقد وافقت الرقابة العسكرية على نشر هذا الكتاب.
وبحسب “يديعوت أحرونوت”، فمضمون الكتاب لم يسرب من قبل وهو غني بالمعلومات عن عملية فريدة لصنع القرار في إسرائيل. وجلبوع لم يوفر أحدًا في كتابه، وأظهر باراك “رجل الدولة ذي البصيرة” لكنه تبنّى عملية صنع قرار غير منتظمة، إضافة إلى عدم مبالاته لمعاناة جيش لبنان الجنوبي (جيش لحد) وعائلاتهم. كما صُوّرت القيادة العليا في الجيش الإسرائيلي على أنّها مغلقة الذهن بسبب إستمرارها معارضة الإنسحاب الأحادي الجانب من لبنان.
لاعبو القصة
أسماء اللاعبين في هذه القصة مثيرة للإهتمام: إيهود باراك، غابي أشكينازي، غادي أيزنكوت، بيني غانتز، عاموس جلعاد، عاموس مالكا، وغيرهم من كبار الشخصيات الذين لعبوا دورًا كبيرًا في التاريخ الإسرائيلي.
وبحسب البيانات التي أظهرها جلبوع، فقد بيّن التكلفة، النفوذ، وحجم الوجود الإسرائيلي في لبنان: من حزيران 1985 حتى بداية 2000، خسر الجيش الإسرائيلي 235 جنديًا في لبنان (ليس من ضمنهم 73 قتلوا عام 1997 بتحطم مروحيتين)، أمّا وفيات جيش لحد فأكثر من 5000 شخص. ويقول جلبوع: “من الصعب الفهم لماذا تأخر القرار بالإنسحاب من لبنان ولم لم يتخذه أي رئيس وزراء قبل باراك الذي كان أوّل من خرج من الركود العقلي”.
من باراك إلى موفاز
وفي ملاحظات من باراك لموفاز في آذار 2000، والتي يملك جلبوع نسخة عنها، يقول باراك: “خلال 18 عامًا من الوجود الإسرائيلي في لبنان، تمّ التنازل للسوريين وإعطاؤهم فرصة للبقاء على حساب دماء الجنود الإسرائيليين. ما مصلحتنا في ذلك؟ ما هي مكاسب إسرائيل إذا بقيت تسيطر على منطقة أمنية في جنوب لبنان؟ لا شيء. ضحايا وانقسام داخلي فقط”. وسأل باراك: “لماذا يجب أن نعطي الشرعية لحزب الله للمقاومة ضدنا، ومهاجمته الجيش الإسرائيلي، وجعل شمال إسرائيل كله هدفًا ثابتًا لصواريخه، هل هذه المنطقة الأمنية توفر الأمن حقًا لإسرائيل؟”.
عن وعد باراك
في الأول من آذار 1999، أي في اليوم التالي على مقتل قائد الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان الجنرال إيريز غيرستين في كمين في لبنان، وعد باراك المستوطنين أنه إذا فاز بالإنتخابات وشكّل الحكومة سينسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان في غضون عام، وإسرائيل ستدخل في مفاوضات عميقة مع سوريا حول تسوية دائمة. وعندما فاز بالإنتخابات عمل سريعًا على الوفاء بهذا الوعد. وقد أعطى باراك الأولوية لإجراء محادثات سرية مع سوريا حول القضية الفلسطينية لأنه اعتقد أنها كانت أكثر بساطة.
وأعرب عن اعتقاده أنه سينجح بالتوصل إلى اتفاق شامل في سوريا والتي ستشمل أيضًا وجود الجيش الإسرائيلي في لبنان ونزع سلاح حزب الله، أو على الأقلّ ضمان إلتزام سوري بوقف نشاطات الحزب ضد إسرائيل .
“هنا مغالطة مركزية وراء الإستعدادات الإسرائيلية وخصوصًا إنسحاب الجيش”، يقول جلبوع: “باراك أمرَ الجيش بالجهوزية للخروج من لبنان ضمن إتفاق سلام شامل مع سوريا. إنسحاب “أنيق” ومناسب للجيش وليس تحت ضغط النار أو فوضى القتال وتبقى الحدود هادئة وسالمة”. وبعد فشل الإتفاق مع سوريا، أعدّت قيادة المنطقة الشمالية نفسها للإنسحاب حتى من دون إتفاق مع سوريا.
من جهته، قال أشكينازي لباراك: “إذا سحبنا قواتنا من دون إتفاق، سنبقى تحت النار”. لكن باراك أصدر تعليماته للتعامل مع الإنسحاب بدون اتفاق، وكان يخشى كسر جيش لحد. وفهم باراك أنّ الإنسحاب الأحادي الجانب من شأنه أن يوظّف كتراجع أمام عبوات “حزب الله” الناسفة، لذلك حرص على التحدث عن الإنسحاب بعد التوصل إلى اتفاق.
باراك، بحسب مصادر مطلعة، عرف أنّ الجيش الإسرائيلي سيقاوم الإنسحاب بشدة، وإذا سرّبت تلك المعلومة للإعلام ستحدث حالة من الذعر العام.
لقاء مع الأسد والشرع
في أواخر 1999، سعى بارك للتوصل إلى اتفاق مع سوريا ولقاء الرئيس السوري حافظ الأسد. ولكن مع مرور الوقت اكتشف أن محاولاته لن تجني ثمارها، وأدرك أنّ الإنسحاب سيبدو بعكس ما خطّط له.
في 14 تشرين الأول 1999، إستدعى باراك موفاز وقال له إنّه سيبذل كلّ جهد من أجل ضمان انسحاب في أعقاب إتفاق. وبدعم باراك ووساطة الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، حاولت إسرائيل بذل الجهود للوصول إلى إتفاق مع سوريا. وتمّ تسليط الضوء عليه في لقاء جمع باراك ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع في شيبردزتاون، وفي لقاء كلينتون – الأسد في جنيف في آذار 2000. لكنّ المحاولات باءَت بالفشل الذريع.
وبحسب تسجيلات لموفاز في 8 شباط، خلال إجتماعه مع السكرتير العسكري لباراك، أيزنكوت، ومجموعة من كبار ضباط هيئة الأركان العامّة، قال باراك لموفاز “بذلت جهودًا كبيرة لإجراء مفاوضات مع سوريا لكننا فشلنا. من الواضح أنه علينا التحضير للإنسحاب من لبنان من دون التوصل إلى اتفاق”.
فردّ موفاز: “هل هذا يعني أنّ قرارك السياسي الخاص سيجعلنا نخطط للإنسحاب رسميًا من دون إتفاق؟”. فأجاب بارك: “علينا الإنسحاب تدريجيًا لا مرة واحدة، لا يمكن أن نبقى نعتبر أولويتنا الإنسحاب بعد إتفاق”. فتمتم موفاز: “أفهم ذلك”. وبحسب جلبوع “فقد كان باراك واضحًا أنّ الإنسحاب سيتمّ بدون إتفاق”.
وتابع جلبوع: “باراك وضع نفسه في القضية الأكثر حساسية، وقال للضباط إنّ الأمر المهم أنّ جيش لحد لا يعلم شيئًا عن الإنسحاب، ويخطط للإجتماع بكبار ضباط من أجل رفع معنوياتهم”. وأضاف أنّ “تصرف بارك صعّد التوتر مع قيادات جيشه، وأضرّ بموقعه ومكانته وخلق جوًا مسمومًا في علاقته مع أشكينازي. وتغيرت نوعية القرار التاريخي”.
حتى آخر سنتيمتر
أمّا تقييم Aman الذي كتبه عاموس جلعاد (مدير مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في وزارة الدفاع الإسرائيلية اليوم) فكان مخيفًا جدًا. وقال إنّ الإنسحاب من دون إتفاق لن يترك فرصة للهدوء. وقال جلعاد في نقاش داخلي في شعبة البحوث: “هل سنكون قادرين على التحرك بحرية على طول الحدود، فيما لا يبعد رجال حزب الله سوى عشرات الأمتار عنّا؟ في الأشهر الأولى بعد الإنسحاب ستكون الحدود هادئة، لكن بعد ذلك سيعزز الحزب إمكاناته ونتوقع حصول هجمات ولن تقتصر على الحدود اللبنانية ولكن سيكون للحزب أهدافًا عميقة داخل إسرائيل”.
وفي تقييم إستخباراتي خاص، وزّع على القيادات العسكرية الإسرائيلية في 3 آذار 2000 فإنّ معظم الهجمات ستكون ضدّ أهداف عسكرية على طول السياج الحدودي لا سيما مواقع الجيش الإسرائيلي، ولكن بسبب الوضع على الأرض، ستهدد هذه الهجمات المناطق المدنية وتؤثّر على نوعية الحياة والشعور بالأمان لسكان شمال إسرائيل.
وفي إجتماع لمجلس الوزراء صرخ أحد الوزراء بوجه مالكا: “أنت تقيم قرارنا بالخاطئ وتعتبر أنّ الإنسحاب الأحادي الجانب سيؤدّي إلى هجمات. ووضعنا سي؟!”. وقبل تدخّل موفاز للدفاع عن مدير “Aman”، قال مالكا: “أولاً ما أقوله مستند إلى معلومات مؤكدة. ثانيًا كإستخبارات ليس لدينا موقف من الإنسحاب من لبنان، لسنا مع أو ضد، والقرار السياسي قد اتخذ وما علينا هو وصف الحال التي سنصل إلى سواء كانت العواقب وخيمة أو جيدة”.
إتفاق أممي لحفظ ماء الوجه
وبعد فشل الإتفاق مع سوريا، قدّم يوري لوبراني، منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في لبنان وسوريا ونائبه الكولونيل روفن إيرليش، إقتراحًا إعتبره بعض الضباط في الجيش الإسرائيلي “سخيفًا”، وهو الإنسحاب من لبنان مع تأكيد الأمم المتحدة أنّ الإنسحاب الإسرائيلي سيصل إلى الحدود الدولية، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر عام 1978 (بعد عملية الليطاني). والهدف هو الحصول على الشرعية من العالم، ودحض ما يقوله حزب الله أنه يقاتل في أراضٍ لبنانية.
وبحسب جلبوع، فإنّ باراك قرّر ألا يكون الإنسحاب أحادي الجانب بل تحت إتفاقية مع الأمم المتحدة، وهنا تكمن طبيعة القرار، المستند على إعطاء شرعية دولية للإنسحاب، وهو مكسب إستراتيجي لإسرائيل ومنع أي هجوم لحزب الله على أراضيها.
الوحدة 8200
الوحدة 8200 في الإستخبارات الإسرائيلية علمت أنّ اللبنانيين والسوريين وحزب الله تفاجأوا بالإنسحاب الإسرائيلي ولم يتوقعوا أن يفي باراك بوعده. وفي تموز 2000 بدأت الأمم المتحدة تحضير الخرائط والقوات الدولية إلى لبنان لتنتشر في المناطق الحدودية.
وبحسب جلبوع فإنّ أشكنازي اعترض على إهمال جيش لحد، وجعله أكبر الخاسرين، وكان يخشى ألا يعيد جنوده الأسلحة الثقيلة التس سلمتها إسرائيل إليهم.
كذلك، فقد أخبر ملكا، جلبوع أنّه شعر بالغيرة من “بروباغندا” حزب الله، وقدراته في الحرب النفسية وتمكنه من إستغلال وسائل الإعلام بسرعة لتضخيم ما حصل. كما أثنى على نجاح الحزب بمنع السرقة والنهب في الأماكن المحررة، وأعرب عن تقديره لما فعله الحزب واعترف بالفشل الإسرائيلي.
عماد مغنية.. الهدف
في صباح 22 أيار، حصل أمر “دراماتيكي” مفاجئ بالنسبة لإسرائيل، فقد علم قادتها أنّ عماد مغنية، القائد العسكري والمطلوب رقم 1 من قبل الإستخبارات الإسرائيلية أرادَ ترؤس وفد من كبار قادة حزب الله إلى جنوب لبنان تحضيرًا للإنسحاب الإسرائيلي. ويومها دعا باراك رؤساء المؤسسة العسكرية وأجهزة الإستخبارات إلى مقر لواء “شوميرا” لمناقشة فرصة العمر وهي استهداف المطلوب الأكثر أهمية في العالم لإسرائيل.
التعليقات مغلقة.