مطالعة الرئيس حسين الحسيني مساهمة لحلّ الأزمة بجوهرها

أخذنا الرئيس حسين الحسيني في مؤتمره الصحافيّ برحلة حاول فيها إيجاد ثلاث مخارج للأزمة التي تربكنا وتقضّ مضاجعنا يومًا بعد يوم وبلا هوادة في لبنان. إنه بامتياز صوت العقل الراقي بوجه أصوات تخرج من كلّ حدب وصوب توغل بكتابة الفوضى الهدّامة للنظام السياسيّ فيرمى باللبنانيين بصحراء عبثيّة خانقة وقاتلة.

قد لا يرى الرئيس الحسيني الأزمة في النظام، وتلك قراءة لها أسسها وخصوصيّتها مرتبطة بمساهمته الرئيسيّة بصياغة الاتفاق، بل يراها في التجسيد والممارسة. فالحلول المنسكبة منه بعقل واع وزخم واسع وكثيف لا شكّ أنّها نابضة بروح وطنيّة عالية نذوقها ويذوقها كثيرون عند من كان راسًا للسلطة التشريعيّة في لحظات قاسية حبلى بالتغييرات الكبرى من لبنان إلى المنطقة بأسرها انفجرت كلّها، ممّا استدعت دورًا كبيرًا له إلى جانب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير آنذاك وقوى مسيحيّة للماسهمة فس إيجاد مخارج تبلورت في مدينة الطائف السعوديّة. وعلى الرغم من أنّ نية دولته مع عدد من المخلصين ما اتجهت لحظة واحدة لتطريس طائفيات سياسيّة جديدة بدءًا من الطائفيّة السياسيّة على حساب المسيحيين، إلاّ أنّ المواكبة العربيّة والدوليّة حرّفت النيّة السعي بخلفيتها لتجذير النصّ نحو جعل لبنان ساحة أو بالتالي ملعبًا للرئيسين حافظ الأسد ورفيق الحريري، أي لسوريا وللسعودية بالتوظيف السياسيّ والماليّ.

تحريف النيّة بحدّ ذاته أطاح بطموح الرئيس حسين الحسيني ومعظم المخلصين بولادة دولة المؤسسات الضامنة لديمومة أعمال الناس وعلاقتهم بالدولة والناظمة لمعايير تلك العلاقة بالأسس القانونية والدستوريّة والماليّة بالحقوق والواجبات.

الطامة الكبرى في الحقيقة أنّ المسالة لم تعد محصورة بالتحريف بوجهيه الدوليّ والعربيّ وبالتنفيذ المحليّ، ويعرف دولته في الحقيقة بأنّ الطائف لم يكن خلال حقبة التسعينات مستقلاًّ عن حدود الوصاية السوريّة للبنان حتى سنة 2005، وبعد خروج السوريين كنتيجة للقرار 1559 وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحوّل الطائف من آحادية استهلاكه سوريًّا إلى آحادية استهلاكه سعوديًّا بسبب شعور السعوديين بانّه نافذة لهم بتجسيد السنيّة السياسيّة المتحالفة مع طائفيتين أخريين على حساب المكوّن المسيحيّ المستولد من معظم الطائفيّات الأخرى من بعد إنهاء عهد المارونيّة السياسيّة باتفاق بني في جوهره على تمزّق مسيحيّ بنيويّ عميم ولولاه لما كان هذا الاتفاق.

هو في حقيقته اتفاق الضرورة وتسوية نقلت لبنان من حالة إلى أخرى وجاء الانتقال على ضفاف تحوّل كبير استراتيجي حدث في العالم في تلك الحقبة. يمعنى أنّه حالة تسوويّة وليس هالة تكوينيّة. لم نرَ أيّ تكوين جديد للسطلة من هذا الاتفاق، والتكوين في حقيقته يعني التجسيد بالتنفيذ.

وبرأي كثيرين وجدوا في تلك المرحلة إنّ الشكوى لم تعد بحقيقتها محصورة بعدم التطبيق بل بكونه كان مطرحًا لغير اللبنانيين، للعبة توازن انكسرت منذ سنة 2011 بين السوريين والسعوديين، وانكسار التوازن، تاليًا، كشف المزيد من الثغرات والفجوات المتعلّقة بعلاقة المسيحيين بالسلطة بدءًا من رئيس الجمهوريّة المتلاشي دوره والفاقد للتوازن بسبب التلاشي على الرغم من أنّ الأرض له واحتفظت ببعض الصلاحيات ، ذلك أنّه حين تنتزع منه بعض الصلاحيّات وتسكب لصالح مجلس الوزراء مجتمعًا ومن ثمّ تستهلك من قبل رئيس الحكومة السنيّ على مدى سنوات طويلة في الحكم حينئذ لن يستقيم الحكم في لبنان، ونعبر من أزمة حكم إلى أزمة نظام وكيان ووجود.

لقد طرح الرئيس الحسيني خلال مطالعته مسألتين بالغتيّ الدقّة تكشف جانبًا من جوانب الأزمة الوجوديّة، حين قال: “”إنّ امتناع المجلس عن وضع قانون الانتخابات النيابيّة المطلوب لم يكنْ سوى خرق للدستور بالإهمال (par omission)، كما أنّ استمراره غير منتخب بدلاً من إجراء الانتخابات ثمّ انصرافه عن انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ليس سوى خرق للدستور بالانتهاك (par violation)، ممّا يشكّل انقلاباً على النظام الدستوريّ: بدءاً من أساسه الذي هو انتخاب مجلس النوّاب، إلى قمّته التي هي انتخاب رئيس الجمهوريّة، واللذين بهما تكون إقامة الحكومة الشرعيّة.

ولا يُغيّر في حقيقة الانقلاب شيئاً القولُ بمسؤوليّة هذا الفريق دون ذلك الفريق، فلا شرعيّة العمل وتعطيل المؤسّسة هو الموضوع”. والتوصيف الذي شاءه صاحبه دقيق في الربط ما بين الإهمال (par omission) ومن ثمّ الانتهاك par) (violation والوصفان بحدّ ذاتهما يقودان إلى الفراغ. لكن إذا قام واحدنا باستنتاج لما بلغه النظام الدستوريّ من أزمة حقيقيّة فإنّها نتيجة لأزمة كيانيّة وللمشيئة التي جعلت من اتفاق الطائف معبرًا تسوويًّا ولم تجعله حالة جذريّة، وفي الوقت عينه أزمة الطائف بحد ذاته أنّه يفتقر كما يفتقد لبعض الشروحات الضروريّة والواجبة لمواد فيها الكثير من الإبهام.

في المعطى السياسيّ، ليس أحد يقول بأنّه يريد تغيير الطائف بجوهره المطلق. ولكن ثمّة قراءة نعديليّة إجراؤها مطلوب لسبب وجيه يدركه الرئيس الحسيني كما تدركه النخب السياسيّة الرائدة، وهو أننا بلغنا عقمًا كبيرًا ليس يسيرًا تجاوزه بالعودة إلى دستور لا يزال مساحة خلافيّة تتجلى من طبقات عديدة أهمّها :

1-علاقة المكوّنات المترجرجة فيما بينها، وقد قال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بأنّه ليس من طائفة قائدة في لبنان.

2-العلاقة المسيحيّة بالإسلام السياسيّ اللبنانيّ المتجلّي من تحالف ما بين الرئيس نبيه بري والرئيس فؤاد السنيورة والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط قضم من حقوق المسيحيين كما جعلهم مرميين خارج سياق القرار السياسيّ وخارج العمل الإداريّ في مؤسسات الدولة.

3-علاقة المسيحيين بالدولة المتدهورة والمتدحرجة بسبب قضم الحقوق.

4-التمديد للمجلس النيابيّ مما حدا بتجويفه من شرعيّته وميثاقيّته بسبب الممارسات اللاغية والمبطلة لدور الشعب اللبنانيّ كمصدر للسلطات في لبنان. والرئيس الحسيني اصاب بكل بوجهة نظره لمّا رأى بأن البناء العموديّ هو الأساس. فبناء الدولة وهذا أظهرناه غير مرّة يبدأ من القاعدة وليس من فوق. ومتى تجوّف المجلس من شرعيّته وميثاقيّته فقد دستوريّته وويصح عليه هذا القول فاقد الشيء لا يعطيه وفي أي استحقاق مهما علا شأنه وسمت مرتبته.

أمام تلك الرؤية التي طرحها الرئيس حسين الحسيني والمنلاقي في جوانب منها مع العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله، يصح الكلام المزعوم بأنّنا أمام خيار من خيارين :

أ-العودة إلى ما اقترحه السيد حسن نصرالله كسلّة متكاملة للحلّ، يدخل في متنها اقتراح الرئيس حسين الحسيني والعماد ميشال عون أي العودة إلى الشعب بصورة جذريّة في انتخابات المجلس النيابيّ، ولمَ لا يلحظ ما اقتحره العماد عون الاحتكام مباشرة إلى الشعب في انتخاب رئيس للجمهوريّة فيتأكّد بذلك امران لا ثالث لهما:

أ-أ: الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها وفقًا للقوانين.

ب-أ: مبدأ فصل السلطات وتعاونها في الوقت عينه وانبلاجها من جوهر واحد هو الشعب كما التقاؤها فيه لكونه المصدر والجوهر. ونعزّز بذلك الديمقراطية التشاركيّة على أرقى المستويات.

ب-مؤتمر تأسيسيّ لقراءة أبعاد العقم السياسيّ من عمق الأزمة الميثاقية والوجوديّة التي بلغها لبنان باحتدام كبير قد يؤشّر إلى انفجار قاتل وعبثيّ.
الاتفاق على تلك لرؤية الانقاذيّة والاحتكام من خلالها إلى صوت العقل المتوشّح ببهاء الحكمة وجمالها بصورة رضائيّة بعد حوار يسير، أفضل بكثير من الرهان على الوقت وعلى عامل الصراعات في سوريا وما يمكن أن تسفر عنه معركة الحسم بصورة جذريّة ضمن عنوان القضاء على الإرهاب. المنطقة قادمة بصورة جليّة على محطات تجديديّة وتأسيسيّة سمتها مشاركة كلّ الفرقاء بصناعتها ونسج خيوطها.

وانتخابات أعضاء مجلس الشعب في سوريا تعريّة واضحة للسلطة السياسيّة في لبنان الممدّة عنوة عن الشعب للمجلس النيابيّ في ظلّ انفراج واستقرار هشّين ومعطوبين ويجب الأخذ بعين الاعتبار بأنّ سوريا على الرغم من الحرب حصلت فيها انتخابات فما هي الحجة بعدم انتخاب الناس لمجلس نيابيّ جديد؟ والقياس الثاني الفاضح أن الدولة ارتضت انتخابات بلديّة فلماذا ترتضي هذه الانتخابات ولم ترتضِ انتخابات نيابيّة؟ ثمّة إمعان بتغييب الشعب بالتمديد وفرض رئيس لا يولد من رحم بيئته قويًّا بحيث يتلاقى مع معظم المكونات بعدل وحقّ. في هذه الحال لسنا امام “إهمال” omission ولا انتهاك violation وقد تبدو الكلمة بحدّ ذاتها لطيفة، بل نحن أمام اختطاف ravissement بل احتلال Occupation فاصح للدولة من طبقة سقطت شرعيتها.

العقم مدخل للانفجار، والحكمة تقتضي بالمسارعة لحل الأزمة بجوهرها وليس بظواهرها. والمطالعة التي ابداها الرئيس حسين الحسيني مساهمة مباركة للدخول في بداءة الحلّ.

التعليقات مغلقة.