نداء الجنوب : منشور نضج مع المقاومة

في ذكرى إنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، 16 أيلول 1982، يروي أحد أعضائها، بعضاً من سيرة منشور متواضع ومقاوم تحت الاحتلال، مفضلاً أن يبقى متخفّياً خلف ذاك التاريخ ومعانيه.
كنا، في الأعداد الأولى من منشور “نداء الجنوب” الذي صدرت منه أعداد قليلة تحت الاحتلال (1984-1985)، وصار بعد الإنسحاب الإسرائيلي من أجزاء واسعة من الجنوب والبقاع الغربي “نداء المقاومة”، نحرص على أن لا ترد فيه أي إشارة إلى محرره ومكانه وعلاقاته. كان يتضمن عموميّات سياسية وعقائدية مجموعة من هنا وهناك. والاكتفاء بالإشارة في أعلى الصفحة الأولى إلى أنه لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب كان مقصوداً مثل طابع بريدي أو همسة رومنسية. علماً أننا كنا ننتجه كمقاومين، تحت الاحتلال، من دون قرار ورقابة حزبيين مركزيين. وكان الحزب، في حينها، يتقبل مثل هذه المبادرات.

بعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب (1982)، تلاشى الجسم الحزبي. وكنا بحاجة إلى البدء ببناء تنظيمي جديد. وهذا ليس سهلاً في ظل الاحتلال. والمنشور كان أحد الإشارات إلى استمرار الحزب تحت الاحتلال. وهو كان يؤكد للحزبيين، الذين يصل إليهم حصراً، أنهم على ارتباط سري بالحزب والعمل المقاوم، إذ كنا نعتبر وصوله، وكيفية التعامل معه، أي قراءته وتلفه بعد ذلك، مفتاحاً للتعامل مع القنبلة أو السلاح.

لم يأتِ المنشور من فراغ. بل تابع سياقاً سابقاً في العمل الحزبي تحت الاحتلال. لكنه بدا أكثر تنظيماً، في صدوره شبه الشهري، من بيانات كانت توزع سراً في حينها. وفي البداية، لم نهتم بما ننشره. كنا نفكر، فحسب، في أن يصل إلى الرفاق. كأن مَن يوصل المنشور يقول لمستلمه إن الحزب يثق به. ومن يستلمه يؤكد للحزب أنه ملتزم قراراته ومنضوٍ تحت لواء المقاومة. كان أشبه بقسم اليمين الحزبية رغم أن لا قسم يمين ولا قسم يسار في الحزب الشيوعي.

العمل السري، الذي حافظنا عليه في إنتاج المنشور، عزز إنتماء الرفاق إلى الحزب. فهذا المنشور كان يقول ثقافة الحزب، ويؤكد إصرارنا على المقاومة، التي صرنا، في وقت لاحق، نوثق عملياتها. كنا رومانسيين في نظرتنا إليه. وكنا نهدف إلى إشراك العناصر الحزبيين، في خلاياهم السرية، بالعمل المقاوم.

لم تكن طباعة المنشور سهلة. كنا نتحايل كي نجد مكتبة لطباعة مئات الأوراق ببدائية شديدة. لكن هذه قيمته، كما أفكر الآن ومن قبل، أن يُطبع تحت الاحتلال. كان فعلاً مقاوماً وخطيراً. فإذا قبض عليك أثناء الطباعة أو نقل المنشور، لسبب ما، فهذا يعني أنك تعرف كل الحزب. أو أقله تعرف شبكتي الإنتاج والتوزيع. ولئن كنتَ جزءاً من الإنتاج، فأنت المحرض.

مع الإنسحاب الإسرائيلي في العام 1985، توقف المنشور. لم يعد له قيمته نفسها. لكنه عاد لاحقاً بقرار حزبي، بعد نحو سنة. كان الحزب، في هذه الفترة، قد طور خلاياه داخل الجنوب. صار أكثر تنظيماً. وكنا نحن، بعدما صار لنا “بيت” وآلة طباعة، نستجيب لهذا التطور بتطوير ما ننتجه. لم يعد هدفه الوحيد، أن يصل إلى رفيق يعيش ويعمل تحت الاحتلال، ولا يسعى إلى الربط الحزبي السري. صار شبه جريدة أو شبه مجلة المقاومة. ولا مشكلة إذا وصلت إلى غير المقاومين.

في المرحلة الثانية، صارت المادة أكثر لبنانية وأكثر نضالية، وخففنا من الأيديولوجيا الماركسية العالمية. استبدلنا “يا عمال العالم إتحدوا” بأقوال عن المقاومة. وحلّت أقوال جيفارا بدلا أقوال ماركس. قدمنا دروساً عسكرية. وأدخلنا الشهداء وصورهم وقصائدهم ورسومهم إلى الأعداد. وحولنا بعض تجاربهم إلى قصص. وصرنا نستقبل ما يكتبه المقاومون وننشره بتواقيع خاصة بهم. مثل “مقاوم” أو “سامر”. كأن الأعداد صارت أقرب إلى واقعنا، أو الواقع اللبناني.

صرنا نفكر بما نقوله. تماهينا مع الإنتفاضة الفلسطينية (1987). وكنا نريد انتفاضة مشابهة، في الجنوب. قلنا، في أحد الأعداد، “إنتفضوا”. لم يكن الهدف إنتفاضة مشابهة، لكننا نحاول أن نحرض الناس، في الجنوب، على رفض التطبيع مع الاحتلال.

أفكر الآن، أن تطور هذه التجربة، التي انتهت في العام 1989، وهو موعد مفصلي في تاريخ الحزب، كان رفيق تطور شخصيتنا الحزبية. كنا ننضج مع المقاومة. وكنا نقول، في ما نقوله بها، إننا لا نحمل السلاح فقط، بل نقرأ ونكتب ونرسم أيضاً.

عاصم بدر الدين

التعليقات مغلقة.