إصلاحاً للخلل القانوني في المجلس الشيعي ( ٢ )

رغم الآليات الحديثة المتطوّرة لتولي المواقع و الوظائف الرّسمية الّتي تعتمدها الدّول في عصرنا الرّاهن، و مع كل طروحات الإصلاح و المحاسبة في لبنان و محيطه، و في ظل ترتيب البيوت الدّاخليّة للطوائف اللبنانيّة كافّة باستثناء البيت الدّاخلي الشّيعي؛ فإنّ مواقع الإفتاء الجعفري يسودها الخلل و التّسيّب بشكل غير مقبول بتاتاً ! ما أدى لتراجع حضور هذه المؤسسة في الواقع الشيعي، حيث لم تعد تعني له شيئا إطلاقاً، وانحصر حضورها على جملة قضايا رسمية فقط .

وإصلاح الخلل الكامن في مراكز الإفتاء يقتضي الوقوف عند جملة أمور، نختصر الحديث عن بعضها، خوفا من الإطناب :

١ – لقد أضحينا في القرن الواحد و العشرين و مع ذلك ما زالت طريقة وصول المفتي لموقعه تتم عبر (التّعيين)، بدل اللجوء لآلية تكفل وصول أصحاب الكفاءات و الخبرات، كاعتماد وسيلة الإمتحانات مثلاً، أو عبر الإنتخابات، علماً أنّ نظام مفتي المناطق لدى أخواننا السّنة يحصل عبر الإنتخاب .

و هنا من المفيد الإشارة لأنّه في الأزمنة السّالفة كان القاضي الشّرعي الجعفري يصل لموقعه عبر التّعيين من قبل السّلطة، و بفترة لاحقة تطوّرت الأنظمة حتى صارت الإمتحانات هي وسيلة ذلك و عليه ، و كما أوجدنا نظاماً أكثر موضوعية و عدالة لقضاة الشّرع؛ فيمكن سحب التّجربة على المفتين الجعغريين .

٢ – إنّ مدّة تولي المفتي الجعفري مهامه في الإفتاء ( مدى الحياة ) !!! و هذا أمر غير مقبول بتاتاً، حيث يفترض أن تكون كحدّ أقصى حتى بلوغ سنّ التّقاعد الرّسمي، و أفضل من ذلك أن تكون ولاية المفتي ست سنوات فقط، لا سيّما إذا حدّثنا آلية وصول المفتي، فحينها تجري الإنتخابات كل ست سنوات مثلاً، و هذا ما يجعل للموقع حيويّته، بخلاف واقعه الرّاهن.

فإنّ الأنظمة العالمية الّتي فرضت نظاماً للتّقاعد فقد أرادت من خلال ذلك فتح المجال للتّداول على المواقع من ناحية، و من ناحية ثانية على خلفية استمرار النّشاط في الموقع، فللعمر حقّه، و أي شخص يتقدم به السّن يتزامن مع ضعف قواه، و تراجع همّته… فهذا شأن بشري طبيعي، و ينبغي أن يعي أهل الحل و العقد في الطّائفة أن مسار الأمور في كل دول كوكب الأرض يتّجه للتطوّر، و تالياً فهذا النّظام لم يعد يتلاءم مع القوانين و الأنظمة السّائدة .

و إذا أردنا أن نقف عند الطّوائف اللبنانيّة الأخرى، فلا يوجد أي موقع في دار الفتوى لدى أخواننا السنّة، و لا في دار الطّائفة الدّرزيّة لدى أخواننا الموحدين الدّروز ، لمدى الحياة، إطلاقاً ، حتى موقع مفتي الجمهورية و مفتي المناطق و موقع شيخ العقل .. كلّها محددة بفترة زمنيّة . فمفتي الجمهورية يستمر في منصبه حتى الثانية و السبعين من عمره، في حين أنّ مفتي المناطق يتقاعدون عند بلوغهم السّبعين من عمرهم. و أمّا لدى أخواننا المسيحيين فإن الموارنة و الطّوائف الكاثوليكية كافّة، تلزم المطارنة بالإستقالة عند بلوغهم الخامسة و السبعين من العمر . و الطّائفة الإنجيليّة يحصل فيها الإنتخاب كل أربع سنوات. و أما شيخ عقل الطّائفة الدّرزيّة فمدّته خمسة عشر عاماً فقط، ليحال بعدها على التّقاعد.

و أمّا لدى الشّيعة فإنّ النّظم الرّاهنة تخوّل من يتولّى موقع الإفتاء الجعفري للبقاء في منصبه لمدى الحياة، ما يعني موت الموقع في حال تقدّم المفتي كثيراً بالسن، و هذا ما حصل واقعاً مع عديدين !

٣ – لدى الطّائفة الإسلاميّة الشّيعيّة أحد عشر مفتٍ، المفتي الممتاز و عشرة غيره ، موزعين على مناطق انتشار الشّيعة .

و الجدير بالذكر أنّ أكثر من نصف المفتين لا يوجد لديهم أماكن عمل للإفتاء، بل مجرد مناصب فارغة، بدل أن يكون لكل مفتي منطقة مكتباً للإفتاء في منطقته، يداوم في مكانه، و يتابع شؤون منطقته و همومها منه… كما يفعل القادة الدّينيين للطّوائف الأخرى، الإسلاميّة منها و المسيحيّة ، فلكل مفتٍ سني مكتب في نطاق عمله، و لكل مطران مكانه الّذي يُمارس مهامه عبره … لكنّ عدداً من مفتي الشيعة لا يوجد لديهم مكاتب للإفتاء، مضافاً لكون بعضهم مكتبهم الرّسمي للإفتاء في منزلهم!

٤ – الأغرب من ذلك أنّ مفتي المناطق لا يوجد لديهم أي مهام بتاتاً، فقط المفتي الممتاز له صلاحية واحدة ليست ذات أهمية أيضاً، و هي تتعلق بصلاحيته في تبديل المذهب، و إعلان إعتناق المذهب الجعفري ، فقط لا غير.

و طبعاً من غير المقبول الإستمرار على هذا النحو، بل ينبغي منح المفتين جملة من الصّلاحيّات، أقلّها أن يكون لمفتي المناطق صلاحيّات في إعلان تبديل المذهب، كلّ مفتٍ في نطاقه. و مضافاً لذلك ينبغي أن يمارس المفتون مهام إدارة الأوقاف في مناطقهم، و سواها من أعمال في إدارة شؤون الطّائفة المحلّيّة، و تمثيلها على المستوى الرّسمي .

فإنّ لمنصب الإفتاء مكانته الوازنة في المجتمع اللبناني، و لا يعقل أن يبقى دون أي صلاحيّة أو سلطة، و أي تعزيز لدور مفتي المناطق ينعكس عزة و قوّة للطّائفة.

٥ – في ظلّ واقع الإفتاء المزري الرّاهن، حيث لا صلاحيات و لا حضور و لا فعّاليّة؛ فقد تمّ ابتداع منصب جديد خاوٍ، ليس عديم الصّلاحية و الفعّاليّة فحسب، بل عديم الوجود أيضاً، إلا على المستوى الورقي، و هو منصب ( مفتي بملاك المجلس الشيعي ، و ليس في ملاك الدّولة )، و هذه البدعة غير المجدية ينبغي الإقلاع عنها، بل و إلغاء كل القرارات الّتي سُطّرت في هذا المجال .

و الأجدى الإنصراف لتعزيز دور المفتين الرّسميين قبل السّعي لاستحداث مناصب تنفيعيّة فقط !

٦ – و مع كل الخلل الّذي أسلفنا الحديث عنه، فلا يخفى أنّ عدداً من مواقع الإفتاء الرّاهنة يسودها الخلل، فمثلاً مفتي صور يشغله القاضي الشيخ حسن عبد اللّه بالوكالة من عدّة سنوات، و لم يتمّ تثبيته أو ملئ هذا الموقع الشّاغر بصورة قانونيّة، و المفتي الشّيخ أحمد طالب لا يتسلّم أي منطقة بشكل رسمي، بل هو مفتٍ في ملاك الدّولة فقط !! و أمّا مفتي بلاد جبيل و كسروان فيشغل هذا الموقع شخص من جنوب لبنان !!

وهو الشيخ عبد الأمير شمس الدّين، و قد كان ينبغي أن يتسلّم هذا الموقع شخص من نفس المنطقة، كما هو الحال بالنّسبة لمفتي بعلبك الّذي هو من نفس المنطقة ( الشيخ خليل شقير )، و كذلك الأمر بالنسبة لمفتي صيدا ( الشيخ محمّد عسيران )، و مفتي النّبطية ( الشيخ عبد الحسين صادق )، و مفتي مرجعيون ( الشيخ عبد الحسين عبد اللّه )؛ فإنّهم جميعهم يتولون مراكز الإفتاء في المناطق الّتي ينتسبون إليها، و قد كان يفترض ذلك أن يحصل مع مَن يتولى منصب مفتي بلاد جبيل و كسروان !

٧ – بمعزل عن كون المفتي الجعفري الممتاز يشغل منصبه بشكل مخالف لكل القوانين ( حيث تمّ تعيينه بصورة غير قانونيّة ، فلا يحق لوالده أخذ قرار بهذا التّعيين لأكثر من سبب قانوني ليس مجاله هنا، و هذا الأمر ما زال رهن مؤسسات الدّولة القانونيّة )؛ و لكن مع ذلك فإنّه لا يوجد أي عمل جدي موحد للمفتين، و لم يجتمعوا و لا مرّة لتدارس أمور الطّائفة و الوطن !! و كأنّه لا يعنيهم شيء من مناصبهم سوى امتيازاتها !؟

و حتى أنّ ميزانية الإفتاء الجعفري محصورة بشخص واحد، علماً أنّها تخصّ كل المفتين، و هذا ما يحتم ضرورة تنظيم العمل، بطريقة موضوعيّة شفافة، و ليشترك كل أصحاب الشّأن في قرار صرف ميزانية الإفتاء المبهمة، و مع كل ذلك لا يتم الإكتفاء بالميزانية المقررة إلا أنّه يتم طلب زودة أكثر من مرّة لمصاريف استثنائية .

آن الأوان للإقلاع عن التّعاطي بهذا النَّفَس، و يفترض الإنكباب على بناء مؤسسة بكل ما للكلمة من معنى، تُشرك جميع المعنيين بقرارها، و تتصدى للشؤون العامّة المناطة بها، و يبدأ كلك من تطوير آلية وصول المفتين لموقعهم، و منحهم صلاحيات بحجم مكانتهم في المجتمع، مع ضبط الشأن المالي، و مراعاة الأنظمة الحديثة المعاصرة الكفيلة بايجاد نقلة نوعية لواقع هذه المؤسسة المحتضرة.

الشيخ محمّد علي الحاج العاملي

التعليقات مغلقة.