اللصوص يسرقون المشاعات

تتعالى صرخات المواطنين في أكثر من منطقة لبنانية حول تنامي ما بات يسمّى بـ”الفلتان العقاري” التي تستغلّه مافيات تسيطر على مشاعات وملاك الدولة.

وعلمت “الجمهورية” انّ ثمة شكاوى عدة وردت الى مراجع سياسية وكتل نيابية من مناطق في الجنوب حيث تبلع “مافيات المسح” مساحات واسعة من هذه المناطق، وكذلك من البقاع والشمال وعكار (عدا الأقضية المسيحية الاربعة التي ينطبق عليها قانون مشاعات متصرفية جبل لبنان)، حيث أشار بعض المواطنين الى جبل بكامله “بَلعته” المافيات.

وتوضح مصادر المعلومات ما يجري، فتشير الى انّ الدولة لم تقم بمسح اراضي تلك المناطق منذ العام 1920، وهذه الاراضي كناية عن مشاعات للدولة وملكيّات للمواطنين، ومن هنا قامت مديرية الشؤون العقارية، منذ مدة بتلزيم شركات مساحة عملية مسح القرى في المناطق المذكورة لقاء 100 مليون ليرة للبلدة الكبيرة و90 مليون ليرة للبلدة الصغيرة.

تضيف المصادر: “الشركات المذكورة تقاضت مئة مليون ليرة لقاء أتعابها، ولكن مع بدء عملية الفرز التي بدأتها بالتعاون مع المخاتير والاهالي، تبيّن انّ ملكيات المواطنين مثبتة بـ”حجج” قديمة، الأمر الذي استغلّه بعض تلك الشركات بالتواطؤ مع بعض المخاتير والنافذين في تلك المناطق، وبدأت تحدّد الحدود العقارية للملكيات لمَن يدفع اكثر، إذ انها وخلافاً للقانون أخذت تتقاضى مبالغ مالية من المواطنين القريبة أملاكهم من مشاعات الدولة، تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف او اربعة آلاف دولار، الى أن وصلت المبالغ الى ملايين الدولارات.”.

حيث يتمّ المسح بناء على “الحجّة” القديمة فيقضم مئات الدونمات من املاك الدولة ويجري ضمّها الى المساحة المحددة قبلاً في الحجة المذكورة، ونتيجة لذلك ضاعت على الدولة آلاف الدونمات من المشاعات، توزّعت بين 200 دونم في إحدى القرى، و300 في قرية ثانية و500 في ثالثة تِبعاً لحجم الدفع.

والأسوأ من ذلك، كما تكشف المصادر، تعاطَت بعض الشركات المذكورة بطريقة ابتزازية مع بعض القرى، اذ انها أجرت عمليات المسح من دون ان تثبت “تنشئة المنازل” القائمة أصلاً على الاراضي الممسوحة، وهذا الأمر يرتّب أعباء مالية كبيرة على المواطنين لتثبيت تنشئة منازلهم، وثمّة نماذج فاقعة في الجنوب ولا سيما في بلدات الغندورية وكفردونين، ووادي الحجير حيث وضع البعض أيديهم على غابات ومساحات شاسعة من مشاعات الدولة، وكذلك في بلدة القوزح التي لم يسلم وقف الكنيسة فيها حيث تمّ السطو عليه وسجّل باسم بعض النافذين. والأمر نفسه حصل في فنيدق حيث تبلغت جهات نيابية بعملية سطو على جبل بأكمله مساحته عشرات آلاف الدونمات لصالح بعض النافذين.

وبحسب المصادر، فإنّ عنصر الخطورة الاضافي في الأمر يكمن في انّ الشركات تحجب المعلومات والخرائط التي تضعها عن البلديات، لأسباب غير معلومة، على رغم أنّ هذا المسح الذي أجرته قد أدى الى خلق مشكلات اجتماعية وإرباكات كبيرة في عدد من القرى وخلافات حادة بين الاهالي جرّاء قضم أملاكهم المعروفة تاريخياً وإلحاقها بأملاك آخرين كحق لهم، الأمر الذي رَتّب دعاوى كثيرة أمام القضاء المختص.

علماً انّ هناك بعض المتعهدين بأعمال المساحة التزموا قرى منذ مدة تصِل الى عشر سنوات ولم تنجز بعد، ومع ذلك لا أحد يسأل لماذا هذا التأخير، ومع ذلك يتمّ تمديد المهلة لهم مع دفع قيمة الاتعاب ذاتها في كل مرة.

وأشارت صحيفة “الديار” أن مناطق كثيرة في الأطراف تضج باخبار وحكايات حول الابتزاز المالي الذي يمارسه بعض هؤلاء على المواطنين، حتى بات شائعا بان المسح المعتمد اصبح كدجاجة تبيض ذهبا، من دون ان تنجح “ديوك” القضاء والدولة، لغاية الآن، في لجم هذه الظاهرة المتفشية.

ولا مبالغة في القول ان هناك مساحين قبضوا بشكل غير شرعي مبالغ طائلة من الاهالي، تراوحت احيانا بين 20 و35 مليون دولار في البلدة الواحدة، بحيث بات يحكى عن مجموع اجمالي من “السمسرات” و”الخوات” الجانبية يبلغ مئات ملايين الدولارات التي تسربت الى جيوب المنتفعين، في مقابل بيع “الاوهام” وإقناع الناس بتقديم تسهيلات لهم واتمام ملفاتهم في الدوائر الرسمية.

ويروى، على سبيل المثال، ان هناك مغتربا في بنت جبيل طُلب منه مبلغ 30 ألف دولار لانجاز ملفه العقاري، قبل ان تنخفض النسبة الى قرابة الالف دولار فقط، بعد تدخل أحد العارفين ببواطن اللعبة واسرارها. كما ان احدى الدعاوى المرفوعة امام النيابة العامة المالية تتعلق بملايين الدولارات التي “سُحبت” من المواطنين في منطقة معينة باسم مساعدتهم.

وإزاء هذا الواقع، طرح مصدر نيابي بارز التساؤلات الآتية :

– لماذا يأخذ المسّاحون مالا من الناس ما دام ان هناك موازنة رسمية مخصصة لهم؟

– لماذا لا يسلمون خرائط المسح التي ينجزونها الى البلديات، وهل السبب يكمن في محاولتهم التغطية والتمويه على مخالفاتهم؟

– لماذا لا توجد مهلة زمنية محددة لانجاز المسح، الى درجة ان بعض المسوحات مضى عليها عشر سنوات، ولم تكتمل بعد؟

-لماذا لم تتضمن مناقصة تلزيم المسح سقفا زمنيا لاتمام المهمة، الامر الذي افسح في المجال امام اصحاب المصالح للتسويف والتمييع، من دون رقيب ولا حسيب، للحصول ما أمكن من مكاسب غير مشروعة؟

– ولماذا يتأخر القضاء في وضع حد لهذه المافيا العقارية المنظمة التي تستبيح حقوق الناس والدولة على حد سواء؟

من المسؤول؟

اذا كانت شركات المساحة المعتمدة أو بعضها هي المسؤولة عن هذا الفلتان، فإنّ مسؤولية منعه ووضع حدّ له تقع على الدولة بمؤسساتها ووزاراتها المعنية، وعلى وجه الخصوص وزارة الداخلية التي في مقدورها اتخاذ إجراءات رادعة في حق المخاتير والبلديات المتواطئة في هذا الفلتان، وتقع ايضاً على القوى السياسية النافذة في تلك المناطق التي تغمض العين أو تغطّي تلك الظاهرة.

واستفسرت “الجمهورية” وزارة المالية حول حقيقة ما يجري، فأكدت انّ اولوية الوزارة هي منع هذه الظاهرة، وهي تولي هذا الملف اولوية استثنائية. وانّ الوزير علي حسن خليل اتخذ في الآونة الاخيرة إجراءات رادعة بحق بعض المتورطين وأحال ثلاثة منهم الى التحقيق.

وعلم في هذا الاطار انّ هذا الملف وُضع مؤخراً في عهدة النيابة العامة المالية وكذلك النيابة العامة التمييزية، وجرى تواصل مباشر في هذا الشأن بين النائب حسن فضل الله وبين النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم والنائب العام التمييزي القاضي سمير حمود اللذين أكّدا له إيلاء هذا الامر الاهمية الكبرى، وشدّدا على انّ في إمكان المواطنين المتضررين إقامة الدعاوى القضائية لاسترداد حقوقهم ومعاقبة المتورطين.

وقال فضل الله لـ”الجمهورية” و”الديار”: “نحن أمام قضية وطنية بامتياز، تتصل بأملاك الدولة وحقوق المواطنين. وسبق أن ناقشنا هذا الموضوع في لجنة المال عندما تبيّن انّ الحكومة زادت 15 مليار ليرة على قانون برنامج “التحديد والتحرير” لتلزيم شركات المساحة مَسح المناطق غير المشمولة بالمسح سابقاً”.

أضاف: “تبيّن لنا انّ هناك مشكلات كبرى في هذا الملف جرّاء عدم التزام بعض المتعهدين الكثير من المعايير القانونية ودخول عوامل فساد حقيقية في هذا الملف، منها ما يتعلق بحقوق المواطنين ما سَيولّد مشكلات اجتماعية كثيرة، ومنها ما يتعلق بأملاك الدولة والتي تبيّن لنا انّ هناك من يضع اليد عليها من خلال تزوير المستندات او من خلال الرشاوى المالية لتسجيل هذه الاملاك لمنافع شخصية.

الخطورة في هذا الموضوع انّ التمَلّك بعد المسح يصبح بسندات رسمية بخلاف ما هو حال التعديات على الاملاك البحرية او على بعض المشاعات التي أنشأ عليها مواطنون منازل في السابق، لأنّ ملكية الارض هنا لا تزال للدولة”.

وسئل فضل الله عمّا أوجب إثارة هذا الموضوع في الوقت الحالي وليس قبل الآن؟ فأجاب: “لقد سبق وأثرتُ هذا الموضوع في مؤتمر صحافي، اولاً لأنه مرتبط بمناقشة الموازنة العامة، وثانياً لأنّ شركات المساحة بدأت بتحويل ملفاتها الى القضاة العقاريين للبَتّ فيها ومن هنا رفعنا الصوت قبل أن يبتّ القضاة العقاريون بهذه الملفات ولمنع هذا الفلتان لا بل هذا الاعتداء الخطير”.

ورداً على سؤال آخر قال: “هذا الملف هو خارج ايّ اعتبار سياسي، ونرفض ايّ تغطية لأيّ متورّط ايّاً كان، هذا أمر لا نقاش فيه، هو أمر يعني كل المناطق وبالتالي يفترض ان يتّخذ بحق المتورطين الإجراء القضائي اللازم وان يستعاد كل شبر أرض تمّ السطو عليه”.

ويشدد فضل الله على ان من مسؤولية اي مواطن او مختار او رئيس بلدية او نائب او وزير ان يتصدى لهذا العبث وان يبلغ القضاء عن كل اعتداء او مخالفة للقانون، وعلى القضاء بدوره ان يكون حازما وجادا في المتابعة وان يبادر ولا يكتفي بتلقي الشكاوى، ونحن ندعوه الى ان يضرب بيد من جديد وألا يتهاون مع كل متورط ايا كان انتماؤه ووضعه وموقعه وحزبه ومذهبه ولا يجوز ان يكون احد خارج المساءلة، وليبدأ القضاء من المنطقة التي يريدها.

وحول سر تحريك هذه القضية في هذا التوقيت بالذات، يوضح فضل الله ان هناك اعتبارين وراء تحريكها الآن، الاول يتعلق بمناقشة مشروع الموازنة في لجنة المال والموازنة والثاني يتصل بالمباشرة في احالة المخالفات الى القضاء العقاري اضافة الى اكتشافنا ان بعض الذين استحوذوا بقوة صرف النفوذ على مشاعات بدأوا بالحصول على سندات تملك لها.

موقف القضاء

وسألت “الديار” مدعي عام التمييز القاضي سمير حمود عن موقف القضاء مما يجري، فاجاب: “عند تبلغنا بأي اخبار او شكوى، نتحرك على الفور ونتخذ الاجراءات اللازمة، وبالتالي فان كل قضية من هذا النوع تأخذ مجراها الطبيعي وتخضع الى التحقيق المطلوب”.

ويضيف: “علي سبيل المثال، شاهدت امس الاول تقريرا على شاشة المؤسسة اللبنانية للارسال حول وضع اليد على جبل في احدى المناطق، فاتصلت فورا بالمدعي العام المالي وطلبت منه مباشرة التحقيقات في هذه القضية”.

ويؤكد حمود ان القضاء يبادر تلقائيا الى تأدية واجباته في مواجهة اي تعد على المال العام.

وفي سياق متصل، قال المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم لـ”الديار” انه يتابع ملف سرقة المشاعات والاملاك العامة والتحايل على المواطنين في مسألة المسح، لافتا الانتباه الى انه سبق له ان ادعى على العديد من المخاتير والمسّاحين، كما هدمنا بعض المخالفات وختمنا أخرى بالشمع الاحمر. ويتابع: “من أحدث التدابير التي اتخذناها توقيف شخص من بلدة سحمر في البقاع الغربي لانه رفض ازالة مخالفة، وهناك قضايا اخرى ما أزال أعمل عليها”.

وينفي ابراهيم وجود اي استرخاء او تقاعس في ملاحقة المخالفين، مؤكدا عدم وجود حمـايات سياسية لهم في اي مكان.

ويوضح ابراهيم انه يتحرك فورا عندما يصله اي اخبار او يبلغه الدرك بحصول تجاوز محدد، مشددا على انه يلاحق الموضوع حتى النهاية من دون تهاون او تساهل، بمجرد ان يعرف به، ولكن هناك امور لا نعرف بها..

ويكشف ابراهيم عن انه اعطى المخالفين في بلدته الوردانية (اقليم الخروب) مهلة لازالة مخالفاتهم في المشاعات تحت طائلة ملاحقة من يمتنع عن ذلك، مضيفا: إذا كنت أتصرف بهذه الطريقة في بلدتي من دون ان اراعي حساسية الانتماء، فكيف في الاماكن الاخرى.. بالتأكيد لا مسايرة لمنتهكي حقوق الدولة والناس، وأنا أدعو اصحاب المخالفات الى ازالتها لئلا تتم ملاحقتهم ومحاسبتهم.

التعليقات مغلقة.