متى تحفظُ ذاكرتنا الكبار

الحديث عن الكبار شائكٌ إذ الوهلة تدعك في وجل ألاَّ تفيهم شيئاً من حقهم، ولدوا كباراً في حياة أرادوها كبيرة بلا حواجز وفواصل تحجب الإنسان عن إبداعه وعن الآخرين المختلفين عنه لوناً أو فكراً وعقيدة.

المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، واحدٌ من هؤلاء الكبار على مساحة وطن الإنسانية الشاسع، إسهاماته وحضوره تركا بصمة مميزة في عصرنا الحديث. ففي ذكراه السابعة كأن السبع العجاف بعد رحيله لا تزال شاهدة على مسيرة تجارب سنين وفيرة ستستمر طويلة الأثر بما تحمل من ثقل وغنى في وجوه متعددة.

ترتاح النفس إليه عندما تتذوق خطاباً بعيداً عن التكلف والصنعة في الكلام حيث تسمعه محاضراً وواعظاً وخطيباً، يحاكي القلب ويخترق شغافه شئت أم أبيت.

رجاحة عقله في وقت دفعه تصادم العقول فيه إلى طرق ما هو محرّم التطرق إليه من نصوص مغلقة ورفض الاستزلام الصنمي لها، فنبش التراث خبيراً مؤصلاً للمفاهيم التي اشتاقت إلى من ينفض عنها غبار التحجر والانغلاق.

واتكل على غزارة الثقافة وموسوعية العلم ودقة الاجتهاد والتزام بالرأي بلا تردد، وشجاعة في الطرح بلا مهادنة، وصلابة في الموقف بلا انكسار مستفيداً من تجارب الحياة منذ براعم الطفولة في النجف الأشرف ومحافله الدينية والأدبية إلى لبنان بلد الغرائب والعجائب ومختبر التجارب والرجال.

كلامه حول قضايا الدين والإنسان والحياة لم يصبه اليباس ولم تتسلل البرودة يوماً إلى خطاباته في زمن أصبح كل شيء فيه مستهلكاً ومكرراً، بل جاهد كي يبقى الخطاب مساوقاً للمواجهة مع كل محاولات الداخل والخارج من أجل تدمير الذات وإفراغها من لحظتها الزمنية التي تتحسس بها مسؤولياتها، وعمل على إصلاحها وتغذيتها روحياً وفكرياً حتى تبقى حية ومتناسبة مع لحظتها ووظيفتها.

الكبار من طراز السيد فضل الله وأمثاله لا يعيشون لأنفسهم، فما داموا أحياء لا فرصة أمامهم سوى المواجهة والتضحية إذ همتهم ونظرتهم الثاقبة تثقل صدورهم وتضعهم أمام مسؤوليات فهموا حجمها ونتائجها فكانوا خير من حمل الأمانة.

لم يكن السيد فضل الله من صنف المجتهدين التقليديين، فتحسسه بمسؤولياته واستشرافه لما يحاك ويدور من أحداث محلية ودولية حرّكت لديه مزيداً من الاندفاعة نحو إحياء الاجتهاد بما يخدم الإنسان وتحرره العقلي من الجمود والمألوف الذي لا يلبي التطلعات ولا يصنع إنساناً متمتعاً بعقل منفتح على اللحظة التاريخية التي تناديه لاستثمارها بغية تأكيد الهوية الإنسانية الشاخصة عبر الحضور المميز والمتعدد الجوانب، ومنه الجانب الغيبي الذي يجب أن يطل على مشاكل الأرض وتحدياتها بما يبرز أصالة التفكير في مقاربته لقضايا الوجود.

سلوبه الدعوي شكّل علامة فارقة على مستوى الشكل والمضمون بما جعله موضع تقدير واهتمام، هذا الأسلوب الذي أضاء على الأساس التوحيدي للإسلام والرسالات السماوية بما يحفز على اقتناص اللحظات التاريخية التي تؤسس لقيم فكرية أصيلة باعثة على النهوض بغية إحداث التوازن المطلوب على الساحة.

واجه السيد فضل الله ولا يزال كغيره من الكبار موجات قاسية وحملات عنيفة اختلط فيها السياسي مع الشخصي بغية إضعافه وإلغائه بما عبّر ويعبِّر عن عقل جمعي مفرط في انشداده للتقاليد والطقوس والتأويلات المرتدية لبوس القداسة.

هو عقل رضي أن يقعد عن مهمته في الحوار والتغيير والتفاعل الإيجابي مع كل الطروحات بما يوسّع من دائرة تمثله للإسهامات الفكرية والثقافية، فقام بمهمة تنوير الناس وتحريكهم نحو مسؤولياتهم وتنبيههم لضرورة فهم الماضي بما يحمل من تراث متنوع حتى يقرؤا الحاضر جيداً ويحسنوا التعامل مع القضايا بما يستجد مستقبلاً.

فالسيد فضل الله يريد مخاطبة إنسان لا يعرف الخنوع والخضوع والانزواء في وقت كانت الروح الانعزالية عن الواقع هي المسيطرة ولا تزال.

تحسس من خلال فكره الوحدوي الإسلامي والذي نظّر له وعمل لعشرات السنين ضرورة تأسيس ذهنية مؤمنة بالوحدة في مواجهة مشاريع التفتيت، تفتيت ثقافة الأمة وتعليبها في علب المذهبية والتطرف وإشغال الأنا بأنانياتها الضيقة وحبس الذات بعيداً عن النظر إلى خارج حدود أهوائها.

تجربة المرجعية لديه ليست بحثاً عن مجد شخصي أو ملء ترفٍ ذهني عابر بل هي مشروع يمتد على مساحة الإنسانية ولديه غاياته الإصلاحية والنفعية على المستويات كافة. فالمرجعية ليست لقباً دينياً كما يحلو للبعض، بل إنها مرتبة يفرغ من خلالها الفقيه عصارة لحظاته العابقة بالجهد والمشقة والصبر بغية تصحيح مسيرة الناس وسيرهم نحو روح اجتماعية واحدة جديرة بتطلعاتهم.

كلما كانت المرجعية حاضرة لممارسة فعل الأنبياء كانت ملتصقة أكثر بدورها ومتحسسة بشكل أعمق لمسؤولياتها التي تترجم عملاً دؤوباً ومخلصاً لخدمة الناس والحياة، فليست هي مرتبة ملوكية تسلطية منعزلة عن هموم الناس ومتفرغة لنفسها وما يحيط بها من حاشية.

سيرة المرجع فضل الله تختصر جهداً حثيثاً لأمثال الكبار للنهوض بواقعهم الذي مزقته العصبيات والحسابات الأرضية، فكان لا بد من النهوض وبعث الروح في جسد الأمة المريض عبر إحياء قلب الإنسان بالكلم الطيب وصولاً إلى تحريك عقله.

الفقيه الإنسان الذي عاش إنسانيته مع الناس مربياً لهم على مشاعر المحبة التي تعكس إصراراً على تأكيد الكرامة للجميع في وقت باتت الكرامات مهدورة.

ما يلفت للأسف تعمد كثيرين الإساءة لكبارهم وحرمان واقعهم بالتالي من الإفادة من تجاربهم، وكأن نصيب الكبار أن يتحملوا الغربة في حياتهم وبعد رحيلهم، ترى لماذا كل هذا التخلف ورمي أعمال الكبار وتجاربهم بحجارة الجهل والاكتفاء بالقشور والتسطيح والخنوع بدل حفظهم والإفادة منهم؟

القضية ليست شخصية بل ترمز إلى وضع مرير، فالمجتمع الذي يرضى بالشكليات والمظاهر والخطابات الفارغة وهجران تاريخه المشرق والغني بالتجارب الناجحة هو مجتمع منحدر تخلى عن جذوره وقعد عن مهامه في مواكبة الزمن ولغته وأدمن السقوط واعتاد الانحطاط وهذا بحد ذاته خطر كبير لا بد من التنبه لآثاره الوخيمة.

نحتاج اليوم فعلاً إلى أمثال المرجع السيد محمد حسين فضل الله وكل الكبار الذين يثبتون واقعنا المهزوز ويرفدونه بحكمتهم التي غلت في زمن التصحر.

محمد عبدالله فضل الله

التعليقات مغلقة.