فهم الذات الإنسانية تُحقّق التقدّم

استكمالاً لِما بدأتُه في مقالٍ سابقٍ ( حين يصبح الإنسان عدوَّ نفسه ) , فإنّ الجرأة التي تحدّثتُ عنها سابقاً , تتمثّل في البدء بالقناعة الداخلية التي تتشكّل داخل الإنسان – الفرد . فحين يصبح هذا الفرد على بيّنة حقيقية لفهم الذات التي يتمتّع بها , ويكوّن خلاصة نفسية – فكرية – ثقافية , لما يبتغيه وجوده الأعمّ , يكون ذا قدرة على استخلاص حقيقة تتجلّى في الفعل – الغاية التي يسير إليها .

منذ عقود غابرة ومكتبتنا الفكرية والثقافية امتلأت بدراسات شتّى ومتنوعة حول طبيعة الوجود البشري . منها ما كان منطلِقاً من البيئة الدينية , ومنها ما كان محض أفكار ونظريّات اجتماعية وفلسفية وسياسية . إلاّ أنّ المشترك الدائم لهذه الدراسات كان ” البحث عن غاية وجود البشر ” . وبعيداً عن الغوص في تلك الدراسات والأبحاث , فإنّ تلك الغاية لا يدركها سوى الإنسان بحدّ ذاته . وإن تشابَهت أو اختلفت الأوجه والمنطلقات , يبقى الأكيد الوحيد ,هو قدرة المرء على استكشاف نفسه متجرّداً عن المحيط المؤثّر والفاعل والموجِّه . وتلك بداية القناعة الصحيحة التي يجب أن يتمتّع كل فرد بالجرأة للتفكير بها والخوض في غمارها .

ساد العقل البشري ولمدة قرون من الزمن ظلام فكري انتجته طبقة ادّعت أنّها تتحدّث باسم الرب . فأدخلت مفاهيم وسلوكيات وحتى مسلّمات إلى الفكر الإنساني جعلته محدودتً ومقصّراً وعاجزاً . حتى عاد من سُباته وانتفض بجرأة على تلك الطبقة , وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح . ثم جاءت طبقة أخرى قيّدت العقل البشري باسم المادّيات والتفلّت . وطبقة باسم التحرّر والديمقراطية . وطبقات تتالت مقنّعة هذا العقل بزخارف متعدّدة ظاهرها حق وجوهرها باطل .

وما زال البحث مستمرّاً حتى اليوم عن توليفة نظامية تحقّق المفاهيم التي دأب الإنسان يُنادي بها . إلاّ أنّ هذا البحث ما زال يغفل جوهراً اساسياً , وهو الذات الإنسانية . فأيّ منطلق صحيح لوضع توليفة تضمن تحقيق المفاهيم , يجب أن يكون نابعاً من أصل الذات , لا مُسقَطاً عليها . لذا الجرأة تبدأ من هنا , من داخل الإنسان , أن يكون قادراً على سبر أعماق أصالته الروحية وخلع كل رداء مصطنع مهما كانت تسميته .

إنّ مفاهيم الحق والعدالة والمساواة والحرية والقتدّم وغيرها الكثير , لا يمكن البحث عنها في قوانين وضعيّة أو سماوية ما لم تكن نابعة من الأصالة الروحية للإنسان . ومهما أُنزِلَ من السماء أو صعد من الأرض نصوص تقدّس هذه المفاهيم , فإنّها لا تجدي نفعاً ما دام الجوهر الوجودي للإنسان مُعدَماً . لذا الجرأة الأولى التي يجب ممارستها في سبيل التقدّم .. هي فهم الذات الإنسانية !!

حيدر حيدر

التعليقات مغلقة.