في هذا الوقت، كانت تحضيرات لقاء الحريري بفرنجية قد نضجت على كل المستويات. إنتقل الحريري الى باريس. تبعه فرنجية إلى هناك.إجتمعا لمدة أربع ساعات في دارة الحريري في حضور الشاغوري، وليس في دارة الشاغوري كما قيل. كان الحريري وفرنجية، اللذان تصالحا على المستوى الشخصي، للمرة الأولى، في فترة السين – سين، يرتديان الجينز، في إشارة إلى ارتياح مسبق.
إنّه منتصف ليل الرابع والعشرين من تشرين ثاني 2007. النائب سعد الحريري يركن مهموما على أريكته في الطبقة الرابعة من قصر قريطم، فيما الفرحة تعم الجميع، وهم يرون رئيس الجمهورية إميل لحود يغادر قصر بعبدا إلى غير رجعة، بعد ولاية ممددة استمرت تسع سنوات.
تقدم منه أحد الحاضرين وسأله عن سبب علامات الهم التي ترتسم على محياه، فأجابه:” الله يسترنا من تداعيات الفراغ الرئاسي”.
وبعد نحو سبعة أشهر، كانت غزوة 7 أيار الشهيرة، وكان تفاهم الدوحة الذي لم يكن في حقيقته سوى هزيمة سياسية مرجأة التنفيذ – على الرغم من وسطية رئيس الجمهورية – بعد الهزيمة العسكرية التي سحبت قيادات لبنان إلى العاصمة القطرية.
وعبثا سعى الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري إلى إرجاء انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، بمحاولة التمديد، سنتين على الأقل. كان يقول لمن يلتقي به: “لا شيء يخيفني أكثر من الفراغ. الفراغ هو خصمي الوحيد”.
وقبل أن يغادر العماد ميشال سليمان القصر الجمهوري، أحبطت قوى الثامن من آذار كل محاولة بذلتها قوى 14 آذار لشغل كرسي الرئاسة. أخذتها رهينة. الرهائن لا تؤخذ بالخطف فقط، بل بالتعطيل…أيضا!
وقبيل انتهاء ولاية العماد سليمان، وفي ظل فشل قوى 14 آذار في توفير المطلوب منها لإيصال مرشحها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، حاول الحريري أن يجد مخرجا يقي من الفراغ الذي يخشاه، فكان لقاء باريس الشهير مع العماد ميشال عون.
اللقاء كان محاولة لمد جسور مقطوعة بين ” المستقبل” و”التيار الوطني الحر” قد تنتهي، في حال حصول إجماع، إلى رؤية أفق لإمكان انتخاب عون للرئاسة، في حال حاز على إجماع وطني وموافقات إقليمية.
كان عون يعرف حاجة الحريري إلى حكومة غير حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة لإدارة “فترة الفراغ”، وكان الحريري يعرف حاجة عون إلى كتلته ليعوّم نفسه مرشحا “وفاقيا” للرئاسة المقبلة على الشغور.
في هذا الحوار بين الحريري وعون وافق “جنرال الرابيه” على مبدأ منع الفراغ، فمشى بمشروع التمديد سنة واحدة للرئيس سليمان.
لكنّ “حزب الله” أفشل هذا الاتفاق، مفضلا الفراغ ليس على سليمان فحسب، بل على إمكان أن يتمكن “مرشحه المعلن” ميشال عون من تجهيز نفسه، بتواصل مع كل الأطراف، من الوصول إلى بعبدا.
في المقابل، تحرك حلفاء الحريري، يتقدّمهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وقاد في المملكة العربية السعودية هجوما على خيار عون، فكان ما سمي “الفيتو السعودي” الذي تعزّز بأرشيف عن مواقف عون التي هدفت الى تشويه سمعة الرياض “تحريضا للداخل اللبناني وإرضاء للخارج الإيراني”.
ومنذ تأكد عون من تعثر حظوظ حسبها، لأشهر، مرتفعة، دخل في صراعات متجددة مع ما عاد إلى تسميتها بـ”الحريرية السياسية” وأحيانا بـ”الداعشية الزرقاء”، ما أدّى إلى تعطيل مجلس الوزراء وتعثّر إمكان اتخاذ “قرارات الضرورة”.
وجاء الحراك المدني، على بساط رائحة النفايات المنتشرة على امتداد البلاد: “كلّن يعني كلّن” أصبحت عمليا، بفعل التسييس، عملية انتقام مرجأة من إرث رفيق الحريري.
ووسط عزلة تامة، بدا “تيار المستقبل” محاصرا بتهمة الفساد، في ظل العجز التام، في الحكومة وفي المؤسسات الرسمية، عن إنجاز أي شيء لإرضاء الشارع الذي جرى استنهاضه على أساس الغضب من الوضع الاجتماعي المتفلّت.
ولم يكن هذا الحصار هو الوحيد. أبو بكر البغدادي كان قد دخل على الخط اللبناني بقوّة من خلال الإرهاب. هذا الإرهاب الذي وضعه “حزب الله” وسائر قوى 8 آذار، عند الحريري، مباشرة.
بدا في هذه اللحظات أنّ “7 أيار” سياسية عاشها “المستقبل” ويستمرّ في التعرّض لها. فقد القصف عليه يتوالى من كل الجهات.
كان – ومعه حلفاؤه – يقولون إنّ الحل الوحيد هو في تعجيل حصول انتخابات الرئاسة التي من شأنها أن تحرك المساءلة الحكومية والنيابية وتوفر الغطاء اللازم للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. لكن الرئاسة كانت رهينة الأفق المسدود الذي دفع رئيس وفد “حزب الله” إلى الرابية نحو إطلاق أنشودة “محرّمة شرعا”: “ما منترك عون ما منرضى بدالو!”.
في ظلّ هذا الوضع الحريري المأزوم، وبعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى، ترددت رواية في الأروقة السياسية، بدا لاحقا أنها إيحائية، مفادها أن نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف سمع، خلال لقاء جمعه والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إسم النائب سليمان فرنجية كبديل وحيد مقبول للعماد ميشال عون في رئاسة الجمهورية.
وراحت هذه الرواية تتكرر، لكنّها لم تتّخذ أيّ بعد جدّي إلا بعد اندلاع أزمة اللاجئين السوريين إلى أوروبا.
لم تجد أوروبا أي مخارج ممكنة لهذه الأزمة سوى في محاولة إبقاء اللاجئين داخل البلدان التي لجأوا أوّلا إليها، وتحديدا الأردن وتركيا ولبنان.
في الأردن وتركيا كان هناك سلطة مركزية قابلة للتفاوض. لبنان لم يكن كذلك. قرر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند زيارة لبنان لهذه الغاية، فجاءه من ينصح: “لا تفعل ذلك. ليس في لبنان سلطة مركزية قوية لتحاورها. هناك سيسألونك عن مساعيك الرئاسية ولن يهتموا بطلباتك. إذهب إلى لبنان مع حلّ رئاسي، وإلا فابق في باريس”.
سمع هولاند النصيحة. لم يجد رئيس الحكومة البريطانية دايفيد كاميرون من ينصحه بذلك، فسبق هولاند إلى لبنان، حيث اكتشف أن “الرئاسة أولا”. مسعى بلاده في لبنان انقلب كاريكاتوريا عليه.
إستنجد الأوروبيون بإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما.
تحليل الواقع الرئاسي اللبناني، ومحاولة إيجاد حل له، لا يحتاجان إلى كبير عناء، عند دول غير مستعدة لتدفع ثمن أي شخصية لتترأس لبنان: “فتشوا عن شخصية لا أثمان إقليمية لها”.
وهنا بالتحديد، عادت الرواية الروسية – على صخب السوخوي هذه المرة – إلى الحياة.
لكن لتصبح الرواية الروسية واقعة لبنانية، كان لا بد من العمل على إيجاد توازن لبناني – لبناني وإقليمي – إقليمي، برعاية “المحتل الروسي”، وبصريح العبارة “إيجاد توازن داخلي بين 8 و14 آذار وإيجاد توازن إقليمي بين إيران والسعودية في لبنان”، ترعاه القوة الروسية التي باتت تسيطر على القرار السوري، حيث يعيش بشار الأسد، كواجهة رئاسية ليس أكثر.
وهذا يفترض الحصول على موافقة طرفين محليين وطرفين إقليميين أساسيين.
السعودية وإيران طلبتا مراجعة المعنيين اللبنانيين، وما يوافقون عليه هم توافقان عليه.
هنا دخل سفراء وشخصيات على الخط. السفراء استمزجوا سليمان فرنجية في نوعية العلاقة التي ينوي إقامتها مع قوى 14 آذار عموما وسعد الحريري خصوصا، فأظهر إيجابية مطلقة.
هذه الإيجابيات كرستها رسائل ميدانية، في مواقف حكومية ونيابية ميّزته عن العماد ميشال عون تحديدا.
وأخذ الوزير روني عريجي، بعد دخول مباشر لرجل الأعمال جيلبير شاغوري على خط الدعم، هذه الإيجابيات وشرحها مطوّلا لمقربين جدا من سعد الحريري.
والتقط وليد جنبلاط الإشارة من سفراء الدول المعنية بمسعى “الصفقة”، كما من المملكة العربية السعودية، فأطلق موقفه الشهير: “أنا مع سليمان فرنجية، لأن ما في قلبه على لسانه”.
الإشارة التقطها جنبلاط من خلال فهمه لترداد سؤال وحيد عليه من جميع المعنيين: “ما رأيك بسليمان فرنجية؟”. وهذا السؤال بحث في أمره مع الرئيس سعد الحريري عندما زاره في المملكة العربية السعودية.
في هذا الوقت، كانت تحضيرات لقاء الحريري بفرنجية قد نضجت على كل المستويات.
إنتقل الحريري الى باريس. تبعه فرنجية إلى هناك.
إجتمعا لمدة أربع ساعات في دارة الحريري في حضور الشاغوري، وليس في دارة الشاغوري كما قيل. كان الحريري وفرنجية، اللذان تصالحا على المستوى الشخصي، للمرة الأولى، في فترة السين – سين، يرتديان الجينز، في إشارة إلى ارتياح مسبق.
تمّ الاتفاق على أن يبقى الاجتماع سريا، حتى يراجع كل طرف حلفاءه. كان المتفق عليه بمثابة تسوية تشمل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومبادئ قانون الإنتخاب. تسوية سبق أن طالب ببنودها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابين متتاليين.
سرّب الخبر. جرى نفيه من الطرفين بفارق ثوان فقط. بدا النفي منسّقا. لم يجهد الطرفان كثيرا لنفيه. لاحقا، أكده فرنجية رسميا عندما أصدر مكتبه الإعلامي النفي الثاني.
ومنذ تلك اللحظة، هبّت العاصفة.
العاصفة كانت متوقّعة. هذا النوع من التفاهمات له مفاعيل الزلزال السياسي.
ثمة من سأل الرئيس سعد الحريري، بعيد هذا الاجتماع: كيف يمكن أن تفعل ذلك؟
أجابه: “لو ذقت مرارة الفراغ كما أذوقه أنا لكنت فهمت لماذا أجد أن الفراغ هو عدوّي الوحيد”.
حبر كثير يمكن أن يسكب في قدح أو مدح ما فعله سعد الحريري لسليمان فرنجية، وسيناريوهات كثيرة يمكن أن ترسم لمستقبل هذه العلاقة السياسية وإمكان أن تنقلب سلبا على الحريري لاحقا، لكن هذا يحتاج إلى نقاش آخر.
التعليقات مغلقة.