كي لا يقتل النسيان

من اليمين الرئيس الراحل فؤاد شهاب والوزير الراحل فؤاد بطرس.

يموت الرجال الكبار مرتين، الأولى عندما يغيبون جسدياً، والثانية عندما يقتلهم النسيان.

تأثير الفرد ورجل القرار في صنع تاريخ المجتمعات البشرية أكبر بكثير من تأثير المجتمعات نفسها ككتل بشرية. هذا التأثير قد يكون سلبياً أحيانا وهداماً للمجتمعات، واحياناً اخرى يشكل تجربة مضيئة تطبع الذاكرة الجماعية فتشكل نموذجاً تستخلص منه العبر التاريخية لادارة الواقع وعدم تكرار الاخطاء المميتة.

النموذج لا يعني، ولا يجب ان يؤخذ كتجربة يمكن استنساخها واسقاطها على الواقع، فتتحول الى “سلفية” سياسية تنظر الى الماضي وتحاول اعادة احياء هذا النموذج في المستقبل متناسيةً الحاضر فتلغيه. النوستلجيا السياسية لا تبني الدول ولا الاوطان. الترحم على هذا الرجل او ذاك عندما يغيب، كما وتمجيد أفعاله ليس الا اعترافاً ضمنياً بالعجز والتهرب من المسؤولية في ابتكار الحلول الضرورية لمشكلات وتحديات الحاضر.

الوزير فؤاد بطرس الذي غاب منذ أيام كان من الرجال الكبار الذين تركوا أثراً ايجابياً في تاريخ لبنان من خلال تجربته وممارسته السياسية كما القيم والمبادئ التي آمن بها. تشكل مذكراته التي دونها الكاتب انطوان سعد، والصادرة عن “دار النهار”، محطات تاريخية أساسية ومحورية كان لها أثر كبير على مجريات التطورات السياسية التي شهدها لبنان. فهي استعراض للأحداث التي عصفت بلبنان في الخمسين سنة الاخيرة، يقوم به مسؤول بارز في الحكم شارك في صنع هذه الاحداث التي تمحورت ما بين 1959 و 1982، أي منذ دخول صاحبها المعترك السياسي وحتى تاريخ “خروجه” منه حسب قوله.

لن نتطرق هنا الى جميع القضايا والمحطات الهامة التي جاءت في الكتاب/الذاكرة ، لكننا سنسلط الضوء على الفترة التي تحدّث فيها فؤاد بطرس عن الرئيس فؤاد شهاب ورؤيته الوطنية، التي نشأ عنها مدرسة سياسية عرفت بالشهابية. هذه المدرسة التي انتمى اليها بطرس، وكان من داعميها الأساسيين من خلال قربه الوطيد من الرئيس شهاب وإيمانه بالمشروع الذي حاول انجازه. انها العلاقة الجدلية والتماهي بين الفؤادين. دخل شهاب الى بطرس من باب الفؤاد فاستوطن، واستكان ورفض الخروج. فلا عجب اذاً ان يراودك شعور بأن ظلال الرئيس شهاب تسكن هذه المذكرات، وتنتقل معك من صفحة الى أخرى.

فؤاد بطرس هو إبن الشهابية ونتاجها، ومن أكثر الوجوه المعبرة عنها. دخل السياسة بلفتة من الرئيس فؤاد شهاب عندما حاول الأخير الإلتفاف على النادي التقليدي للطبقة السياسية، والإستعانة بشخصيات أثبتت نفسها في مجال الادارة والمبادرة الحرة. راقب الرئيس شهاب الطبقة السياسية وتعامل معها لفترة طويلة، ورأى انها لا تملك الأهلية وليس لديها الإستعداد لمساندته وتبني رؤيته السياسية الاصلاحية. دخل فؤاد شهاب الحلبة السياسية وحيداً، كان يحتاج الى من يشعره بالتضامن والأمان في وحدته.

فؤاد بطرس التصق بقوة وبعمق بالفلسفة الشهابية التي تمحورت حول بناء دولة المؤسسات الحديثة وتحقيق العدالة الاجتماعية والانماء المتوازن لتثبيت الوحدة الوطنية. ومن اهم ما جاء في التجربة الشهابية لصاحب المذكرات هو حديثه عن شخصية الرئيس شهاب الذي كان من بين القلائل الذين استطاعوا التعرف اليه عن قرب. تشكل هذه المذكرات مرجعاً اساسياً لكل من يريد ان يكتشف شخصية “حبيس صربا” وان يحاكي عالمه الخاص، وفوق مكتب رئيس الجمهورية كان يوجد فقط قلم ونظارات وصورة للسيدة العذراء.

اسم فؤاد شهاب يقرن بالمكتب الثاني. كل ما ذكر اسمه، يُذكر المكتب الثاني معه، وفي أغلب الأحيان لتشويه صورة الشهابية ولمحاربتها. فهل هذا الربط مشروع وفي مكانه؟ ام هي اسطورة ترسخت في ذاكرتنا الجماعية. ما هي حقيقة علاقة الرئيس شهاب بـ”المكتب الثاني” وموقفه من التجاوزات التي كانت تحصل؟

انها رحلة في الكواليس، في أخبار وأسرار تلك المرحلة، مذكرات فؤاد بطرس تعود في الزمن لكي تضيء وتحاول الإجابة عن أمور كثيرة اكتنفها الغموض:

– من هو هذا الفرنسي، “راسبوتين” فؤاد شهاب، الذي لعب دوراً محورياً وأساسياً في الفريق الرئاسي والذي كان الرئيس شهاب يمنحه ثقة شبه عمياء. من هو هذا المجهول الذي كان يهمس في اذن الرئيس ويثير امتعاض بعض معاوني القصر؟

– هل كان الرئيس شهاب فعلاً ً في أجواء “الثورة المضادة” التي شنها حزب الكتائب اللبنانية ومناصري الرئيس كميل شمعون، والتي كان هدفها اسقاط الحكومة الأولى بعد احداث 1958؟ هو الذي كان يؤمن بأن فرص مشروع الدولة الحديثة ستكون ضئيلة ما دام هناك فئة لبنانية ترى نفسها على هامش الحياة السياسية الوطنية؟

ماذا كان دور وتأثير محاولة إنقلاب التي قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1960 على صعيد انعطاف مسيرة النهج الشهابي من خلال دخول المكتب الثاني الحلبة السياسية من الباب الواسع تحت عنوان حماية النهج. هل هذا الإنعطاف كان ردة فعل على ما جرى؟ واذا كان كذلك، لماذا استمر واصبح من السمات الأساسية للشهابية؟ أليست تجاوزات “المكتب الثاني” هي التي أدت الى تزايد الشخصيات السياسية المعارضة للرئيس شهاب تحت شعار انتقاد الأجهزة الأمنية ودروها؟ وهل نتحدث عن كل الاجهزة الأمنية؟ لماذا بقي الجهاز الامني الذي كان على رأسه العقيد توفيق جلبوط بمنأى عن كل اعتراض او نقد؟

وأين فؤاد شهاب من كل هذا؟ هل كان يعلم بما يجري أو ان “المكتب الثاني” وضباطه بنوا لنفسهم استقلالية سمحت لهم بالتهرب من الرقابة؟ فؤاد بطرس ذكر مرات عدة تدخله بطلب من الرئيس شهاب للإحتكام الى القضاء في المشاكل التي كانت سبب التباين بينه وبين “المكتب الثاني”.

مذكرات فؤاد بطرس – وما أراد ايصاله عبرها هي دعوة الى إستخلاص العبر من الاحداث التاريخية السياسية الماضية، والاستفادة منها لتصحيح الوضع اللبناني الحالي، ومحاولة رسم مستقبل أفضل للبنانيين، “لأن خريطة بناء الدولة اللبنانية الحديثة والقوية، والوطن الذي يعيش فيه جميع ابنائه في استقرار ورفاهية، لا يمكن أن تكون الا متطابقة مع تلك التي وضعها فؤاد شهاب والتزم بتطبيقها اثناء ولايته الرئاسية”، كما يؤكد بطرس. ويبقى الرئيس فؤاد شهاب بنظره “عن حق وجدارة أميراً في النبل ومعلماً في الوطنية وقائداً في مقدم لواء المواطنين الباحثين عن خير شعبهم،” و “رئيس كبير للجمهورية.”

اما شكوى الرئيس شهاب الدائمة من عدم تعاون الطبقة السياسية معه ومع برنامجه الوطني فتفسر بعض الشيء معنى الكلمة الوحيدة التي كتبها على مفكرته الشخصية بتاريخ الثالث والعشرين من أيلول 1964: “الحرية”.

اية حرية ابتغاها فؤاد شهاب؟ الحرية من المسؤولية… الحرية من التنازلات ومن جشع الطبقة السياسية… الحرية من المسايرة والتسويات… الحرية من زواريب المناورات الأنانية… الحرية من شعوب الطوائف… الحرية من الإشاعات… الحرية من لعنة وطن يرفض الحياة… الحرية من اليأس وعبثية المحاولة.

فؤاد شهاب وفؤاد بطرس هما من الرجال الكبار الذين سيقتلهم النسيان مرة ثانية اذا لم تتعامل معهم الذاكرة الجماعية اللبنانية، ليس كنماذج يمكن استنساخها بل كتجربة يمكن الاستفادة منها ومرجعية قيَمية من الضروري انتقادها حيث يجب، والاستناد اليها حيث يجب في مقاربة الواقع وبناء المستقبل.

مروان حرب

التعليقات مغلقة.