كفرّمان : من كفر موسكو إلى كفر إيران

 

لطالما اشتهرت بلدة #كفرّمان الجنوبية بلونها “الأحمر”، حتى أنّ #الشيوعية دخلت إليها من بابها العريض حيث طال المد الشيوعي أبناءها وذاعت كنيتها الشهيرة “كفر موسكو” في كافة المناطق الجنوبية.

ليس هذا فحسب، بل إنّ العديد من نسائها كنّ سبّاقات في التجوّل كاشفات الرأس في الشوارع في ستينيّات القرن المنصرم، كنوع من التحدي لعادة ارتداء “الإيشار” في الجنوب. وإذا دلّت تلك الظاهرة على شيء فإنما على تأثر أبنائها بفكر الحداثة، حتى لو أتى من باب الملبس أو المأكل والمشرب. هذه الظاهرة تفشّت في العديد من القرى الجنوبية، إذ ليس مجرّد صدفة وجود الخزان البشري الأكبر للأحزاب اليسارية في الجنوب آنذاك. وإذا كانت تلك الظواهر قد أتت استجابة للمدّ الشيوعي واليساري، فالمدّ الإسلامي لما بعد حركة المحرومين والثورة الإيرانية لا يقل شأناً في هذا المجال. إذ لا تكاد تعثر اليوم إلا على قلة قليلة من النساء الجنوبيات اللواتي لا يعتمرن الحجاب أو “الإيشار” على امتداد تلك البقعة الجغرافية، وينسحب هذا الواقع على العديد من المناطق اللبنانية المصنّفة “إسلامية”.

والمسألة جنوبيا في يومنا هذا لا تقتصر على قطعة قماش الرأس تلك ولا على اللافتات الصفراء والخضراء، وصور الشهداء، وإطلاق أسماء جديدة على الشوارع والساحات تحمل أسماء قادة الثورة الإسلامية في إيران، بل بالتثبيت “الإسمنتي” لدعائم “دولة المقاومة”. إذا أنّ أقواس النصر الإسمنتية العصيّة على غضب الطبيعة، حلّت مكان الهياكل الخشبية التي كانت تنتصب في السابق كيفما اتفق في الأرجاء. هي إذاً دعائم الدولة الإسلامية المنتظرة.

وهذه الدعائم قوامها القضاء على الرجس الشيطاني… من هنا تصبح اليوم قضية منع بيع الخمور وإقفال الأماكن التي تتعاطى بيعها مسألة تفصيليّة في سلسلة التبدلات التي شهدتها قرى الجنوب في العقود الثلاثة الأخيرة. لذا لم يعد أمراً مستغرباً قراءة عرائض كتبها “الأهالي” تحذّر من أنّ “الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان” وتدعي الناس إلى “اجتنابها”، كما هي الحال في العريضة التي انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي والمقدّمة من “أبناء بلدة كفرمان” إلى محافظ مدينة النبطية، مطالبين فيها إقفال بعض محلات بيع الخمور وأماكن السهر الليلية!

وبغض النظر إذا كان #حزب_الله وراء “عريضة الأهالي” أم لا في بلدة كفرمان ، فإن مسيرته الجنوبية في منع بيع الخمور تعود إلى العام 2000 مع تحرير منطقة “الشريط الحدودي”، حتى وإن كان هذا المنع “لبنانيا” يرتقي إلى تاريخ نشوء الحزب، كما كان حاصلاً في مناطق تواجده الأولى في ضاحية بيروت الجنوبية. فعملا بمبدأ “الأرض لمن يحررها”، عمد الحزب على تحرير الجنوب من “رجس الشيطان” ومنع بيع الكحول في جميع القرى المحررة، باستثناء تلك المصنفة مسيحية، في اليوم التالي على التحرير. وهذا ما حدث في قرية حولا حيث كاد يسقط العديد من القتلى جراء إشكال افتعله عناصر الحزب بسبب زجاجة من الجعة، مُنعت على أثره جميع المحلات من بيع الكحول!

وفي السنوات الخمس الماضية تعرّض العديد من أصحاب المحلات إلى ضغوطات من جهات مجهولة لوقف بيع الخمور في مدينة النبطية، وكانت بلدة كفرّمان قد شهدت إحراق إحدى محلاتها، هذا عدا عن قيام بعض أصحاب المحلات بإقفالها نهائيا أو نقلها إلى مناطق بعيدة عن المدينة، وذلك تجنباً للنهايات غير السعيدة، كما حدث في مدينة صور، غير البعيدة من النبطية، حيث عاش بائعو الخمور فيها رعب التفجيرات. وقد أدّى إنفجار مطعم “تيروس” إلى إقفاله ونقله من وسط المدينة إلى مكان غير بعيد من منطقة الناقورة.

ومهما كان من أمر عريضة “أبناء بلدة كفرمان” التي أُرفقت بتواقيع بعضهم، فإن هناك نواحٍ إيجابية لم يتطرق لها من كتب عنها في الآونة الأخيرة. فهي تدل على “ثقافة ديمقراطية” متمثّلة بثقافة العرائض والإستفتاء، كما هو معمول به في الدول المتقدمة. إذ إنتقل “الأهالي” من “ثقافة” كتابة الرسائل التهديدية المرفقة بالرصاص بدلاً من التوقيع كما حدث في قرية حولا منذ حوالي أربع سنوات، إلى ثقافة العرائض وجمع التواقيع لإرسالها إلى محافظ المنطقة أو إدارات الدولة المعنية، “لإتخاذ الإجراءات اللازمة”. بيد أن هذه “الثقافة الديمقراطية” الطارئة على هذا الجزء من “أهالي” تلك البلدة النائية، لا تعدو كونها بضاعة فاسدة تدق عنق الديمقراطية الإستفتائية.

فعندما يجول بعض “المشايخ الفاسدون ومن أصحاب السوابق” (كما أشار أحد أصحاب محلات بيع الكحول الواردة أسماؤهم في العريضة عفيف صالح) على النساء والرجال الطاعنين في السن للحصول على تواقيعهم على العريضة تحت مسمّى “إقفال الملاهي الليلة” في البلدة، تصبح “عرائض الأهالي” وسيلة ماكرة لإنتزاع موافقة أبناء البلدة على أمور قد لا يوافقون عليها في ظروف مختلفة. والحال تشهد منطقة الجنوب إنتقالا من “ثقافة خفافيش الليل” إلى “ثقافة عرائض الأهالي” للوقوف بالمرصاد في وجه كل ما “يؤدي إلى نشر الفساد والسوء”، أو “يؤدي إلى المساس بالشعور الديني والشريعة الإسلامية”، كما نصّت عريضة “أهالي” البلدة.

وسواء كان “العدو الإسرائيلي هو من يقف وراء تلك العريضة”، كما يحلو لصالح تشبيه الأمر أو أي طرف آخر، فإنّ مسألة “أسلمة” القرى الجنوبية تستمدّ قوتها من “الثورة الإسلامية في لبنان”. وبعيدا من التناول السطحي للعريضة على إعتبار أنها وسيلة ماكرة موجهة ضد رئيس بلدية كفرمان على أعتاب إنتخابات بلدية محتملة، فقد وضِعَ جنوبنا اللبناني من زمن بعيد على سكة الوصول إلى محطة “كفر إيران”.

التعليقات مغلقة.