المواجهة السعودية الإيرانية : حزب الله عنواناً

 

دخول لبنان على خط النار السياسي المشتعل بين المملكة العربية السعودية وإيران بشكل مباشر ليس وليد الساعة، بل نتيجة تراكمات عدة تجمعت منذ أيام العاهل السعودي الراحل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي حاول وعمل منذ البدايات على رأب الصدع مع إيران ومع الأنظمة التي تدور في فلكها، تلك السياسة التي استنتج الأحفاد- أحفاد آلِ سعود – بأنها لم تنجح في لجم طهران عن ممارسة التمدد ومحاولات إطباق السيطرة على العديد من الدول، ما استلزم منهم انقلاباً حاداً فور رحيل الملك عبدالله.

تشرح مصادر ديبلوماسية مطلعة سياسة تطور التفكير السعودي في السنوات الأخيرة قبيل الربيع العربي وبعده، وكيف أنّ نهج المصالحة الذي اعتمده الملك عبد الله بن عبد العزيز بين الدول المتصارعة في المنطقة، والفئات التابعة لها في لبنان تحوّل مع الجيل السعودي الجديد الى سياسة مواجهة في ظلّ تطوّرات المنطقة.

ثم إن المصالحات التي انتهجها الملك عبدالله لبنانياً تجلت بزيارته دمشق يرافقه الرئيس سعد الحريري في تشرين الأول من العام 2009، في خطوة إعتبرت حينها فرضاً سعودياً على وريث رفيق الحريري والتي أعقبتها زيارة للرئيس الحريري في كانون الأول من العام نفسه وتلتها زيارات له على رأس وفود وزارية عام 2010 بعد ترؤوسه الحكومة اللبنانية، جاءت كلها نتيجة الجو التوافقي الذي أراده عبد الله بن عبد العزيز، وأواخر العام نفسه، قام سعد الحريري بزيارة ايران، بمباركة سعودية أيضاً حيث أكد من هناك عدم إتهام حزب الله بإغتيال والده.

وفي السنة الأخيرة لحكم الملك عبدالله توج سياسته بهبة المليارات الثلاث للجيش اللبناني والمليار الرابع للقوى الأمنية المختلفة تعبيراً عن الرغبة السعودية في تحييد لبنان عن الصراع الإقليمي وسعياً لحماية استقراره ومحاولة منه لفتح أبواب المصالحات الإقليمية من العراق الى لبنان.

لكن ومع رحيل عبد الله بن عبد العزيز استنتج الملك سلمان وأحفاد آل سعود عامة أن تلك السياسة أوحت لإيران بضعف المملكة وبفقدان أدواتها للمواجهة، مما شجّعها على التوغّل في نزاعات المنطقة بحثا عن نفوذ لها واسع النطاق من اليمن والعراق الى البحرين وسوريا ولبنان، ودفع في المقابل بأصحاب القرار الجدد في السعودية الى الإنقلاب الحاد والإنتقال من نهج المصالحات الى سياسة هجومية في شتى مناطق النزاعات الإقليمية.

ولا يشذّ لبنان عن هذه القاعدة، حيث نفوذ “حزب الله” لا يستهان به، وقد كرست الأزمة الرئاسية المستدامة مبدأ سلطة الحزب على القرارات المصيرية في الداخل اللبناني في ظلّ انطباع عام في لبنان كما في السعودية بأنه هو من يعطّل انتخاب رئيسٍ جديد في لبنان، مستخفاً بذلك بالتنازل الذي قدمته المملكة بالموافقة على ترشيح أحد أبرز حلفائه وحلفاء الخط السوري – الايراني الذي يمثّله، النائب سليمان فرنجية.

بالإضافة، فان ربط رفض “حزب الله” الضمني انتخاب رئيس في لبنان، كما تراه جهات عديدة إقليمية ومحلية، بما يشاع حول تطلّع الحزب أولا الى مؤتمر تأسيسي في البلاد يقلب موازين القوى فيه لصالحه ولصالح الطائفة الشيعية، ساهم في تأجيج المشاعر الهجومية ضده، وسرّع في اتخاذ السعودية قرار “المواجهة”.

واذ يعتبر البعض أن هذا القرار كان مفاجئا من حيث الحدّة والتشدّد، أكان على الصعيد السياسي أو الاقتصادي مع التضييق المالي على لبنان واللبنانيين في بلاد المهجر العربية، الا انه لم يكن وليد الساعة بالتأكيد، بل أتى نتيجة تراكمات وتحولات في السياسة الداخلية السعودية واقتناع سعودي متزايد بأن لبنان ليس فعليا على الحياد، وأن الوقت قد حان لتحييده.

وبناء عليه، كان من الطبيعي الا تكتفي السعودية ببيان الحكومة اللبنانية المندّد بالاعتداء على السفارة والقنصلية السعودية في إيران، بل أن تسعى الى رفع سقف الكلام السياسي في وجه “حزب الله” وأن تطمح الى إجراءات تُتّخذ على أساسه، تُجبر الحزب من خلاله على التخلي عن نهج “الفوقية السياسية” الذي بات هو وإيران يتبعانه ويتعاملان على أساسه مع شؤون المنطقة ومع الأفرقاء الآخرين خصوصا في لبنان، بحسب ما تراه السعودية.

ففي منطقة تبدو طهران فيها متقدمة ميدانيا على المملكة وحلفائها الخليجيين، أو أقلّه تتصرف مع الآخرين على هذا الأساس، لا بدّ من أن تلجأ السعودية الى التصعيد المذهبي لتوازي هذا الوضع، علما أن قدراتها في المواجهة على الأرض لا تزال محدودة، ولا بدّ من دعمها بعنصر “المذهبية” الذي تتفوق المملكة به على ايران نظرا لتعداد السنة في المنطقة، وما يمكن ان يفرزه من التحام سني، وبالتالي من قوة ضاغطة، متى حُرّك العصب المذهبي.

ويبدو أن ما أنجزه الحريري حتى الساعة في هذا الإطار لدعم الموقف السعودي، من بيان حكومي الى عريضة غير مجدية وقعت في السفارة السعودية في بيروت، الى ما هنالك من تعليقات واعتراضات على نهج حزب الله في الداخل اللبناني، لم يقنع السعوديين، ما استدعى تدخلا مباشرا من المملكة لإعادة التوازن مع حزب الله حيث عجز الحريري عن إقامته.

وللحريري أكثر من سبب للتلكؤ عن اتباع سياسة “كسر العظم” مع الحزب في المعادلة السياسية الداخلية على غرار ما فعله وزير العدل المستقيل أشرف ريفي، ولاحقا وزير الداخلية نهاد المشنوق، ولو بشكل أقلّ حدّة، عندما دعا الى وقف الحوار بين “المستقبل” و”حزب الله”، وهذا ما لم يوافق عليه الحريري، فهو على يقين أن تصعيدا كالذي تدعو اليه المملكة من شأنه أن يخلق خلافا كبيرا مع الحزب ويلغي بالتالي حظوظه بالوصول الى رئاسة الحكومة.

بالاضافة، يعي الحريري خطر خصام طاحن مع “حزب الله” على السلم الأهلي، وهو من موقعه كمسؤول سني وزعيم وطني لا يمكنه المجازفة في خوض مغامرة متهورة كهذه.

ويبدو حتى الساعة، وبالرغم من الكلام التصعيدي لمؤيدي الخط السعودي في لبنان من جهة ولحزب الله من جهة أخرى، وآخره جاء بالأمس على لسان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، أن لا نية لتخطي الخطوط الحمر للسلم الأهلي وللاستقرار الأمني في لبنان.

وتشير المصادر الديبلوماسية إلى أن لا رغبة حتى في بعض الأوساط السعودية بمواجهة مع حزب الله تؤدي الى حرب داخلية في لبنان، تعرّض الطائفة السنية الى الخطر.

وتضيف المصادر أن هنالك عددا من العوامل تدعو الى التفاؤل بأن يخفّ التوتر في الداخل اللبناني، بما فيها أن بعض الجهات قد دخلت على خطّ التهدئة بين السعودية وإيران، ومنها الولايات المتحدة وسلطنة عمان، مما قد يترجم إيجابيا على الساحة اللبنانية.

كذلك فإن الاتفاق الروسي- الأميركي حول سوريا من شأنه أن يضفي بجو ارتياح سياسي في الداخل اللبناني اذا كان جديا، وليس مستبعدا أن تكون بوادر حلحلة للأزمة السورية غير بعيدة تحت مظلة هذا الاتفاق، خصوصا أن روسيا تسعى جاهدة الى إنهاء الحرب السورية بأسرع وقت ممكن نظرا للعبء التي تشكله على اقتصادها من جهة، ولأنها تفضّل أن تتوصّل الى خريطة طريق لحلّ في سوريا قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية العام الجاري من جهة أخرى.

التعليقات مغلقة.