وقف مراقبون كثر حيارى أمام سؤال حاولوا سبر ألغازه : “ما الذي يدفع شخصاً لترك العيش الهانئ من أجل الالتحاق بتنظيم لا ينشر إلّا #الإجرام والحقد والتعب وسيّئات السوء جميعها؟
وكانت الأجوبة تنحاز الى نواح عدّة منها ما هو مرتبط بالمشاكل الاقتصاديّة أو الشعور بالتهميش الفردي والجماعي أو ما يرتبط بمشاكل نفسيّة لدى الفرد. واحتمال أن تكون أحدى هذه الفرضيّات أو جميعها صحيحة، هو احتمال مرتفع النسبة. لكن ربّما هنالك ما يضاف الى كلّ هذه العوامل مجتمعة.
لم يصل تنظيم #داعش بعد الى مرحلة يشكّل فيها دولة بكلّ ما للكلمة من معنى. لكنّ اللافت تجلّى في قدرته على خلق شبه مجتمع متراصّ يرتبط أعضاؤه بشبكة معقّدة تأخذ الكثير منهم، لكنّها بالمقابل، تعطيهم الكثير أيضاً إن لم يكن أكثر. وقد لا يصحّ مصطلح “مجتمع” إن لم يندرج في إطاره إيمان المنتسبين إليه، لا بعقيدة دينيّة أو قتاليّة معيّنة فحسب، بل بمجموعة من الرؤى الحياتيّة المشتركة والمتجسّدة هي الأخرى بمجموعة من العادات والتقاليد وحتى العواطف المشتركة.
وإن كانت التقاليد عادة تحتاج الى أجيال تراكم ممارستها، إلّا أنّه يمكن للتنظيم أن يكون قد راكمها خلال فترة زمنيّة ليست قصيرة فقط، إنّما قياسيّة ربّما. توماس هيغهامر كتب في صحيفة “النيويورك تايمس” الأميركيّة مقالاً أشار فيه الى بعض العادات التي اكتسبها مقاتلو “داعش” بالإضافة الى البنى الأساسيّة للسلوك الداعشي أكان في ساحات القتال أم خارجه.
العادات والهوايات
الأناشيد الدينيّة، الفيديوهات الدعائيّة، الحديث عن حياة ما بعد الموت، أخبار المعارك و”الانتصارات” بالإضافة الى غيرها الكثير، عوامل تساعد أكثر على فهم مرتكزات ما يقدّمه التنظيم للمنتسبين إليه. فرغبة القتل التي تعتري هؤلاء موجودة، لكنّ البحث فيها فقط سيعتريه الكثير من النقص، لأنّ تلك الرغبة تنمّيها وسائل عدّة يعمل عليها أشخاص متخصّصون داخل التنظيم الإرهابي. بالعودة الى الكاتب، يجد الأخير أنّ “الموضة” و”الشعر” و”الأحلام” عناصر امتزجت ببعضها البعض كي تشكّل حافزاً لدى الكثيرين من أجل الانضمام الى “داعش”.
“بالمختصر، “الجهاد” يقدّم للمنتسبين إليه كوناً ثقافيّاً غنيّاً، حيث يستطيعون إغراق أنفسهم فيه”، يقول الصحافي الذي درس لأربع سنوات ما يقوم به “الجهاديّون” في أوقات فراغهم. ويتابع كاتباً أنّه باستخدام السير الذاتيّة، الفيديوهات، المدوّنات الالكترونيّة، التويتر، شعر بوجود “أبعاد ثقافيّة للنشاط الجهادي”. و”ما اكتشفته هو عالم من الفنّ والعواطف”.
يعلم الكاتب أنّ تعابير “الفنّ” و”العواطف” و”ثقافة” لا تفقد مدلولاتها الأساسيّة في أيّ مجتمع طبيعيّ قائم على السلام والازدهار والرقيّ. لكنّ استخدامه لها يأتي في سياق الإشارة الى العالم الخاص الذي يعيش فيه هؤلاء، وهو عالم منفصل عن الواقع بطبيعة الحال. وهذه المفردات تسلك منحنيات تتقاطع مع المفاهيم الاسلاميّة حيناً وتشطّ عنها أحياناً كثيرة. ويشير الكاتب في هذا المجال الى أنّ كثيراً من هذا “العالم الثقافي” له ما يوازيه في الثقافة الاسلاميّة، لكنّ المقاتلين صبغوا تلك الثقافة بنزعة متطرّفة واضحة.
ويعدّد هوايات كثيرة لعناصر “داعش” منها ما هو متوقّع كسرد القصص البطوليّة ومشاهدة الأفلام ومنها ما هو مستبعد التوقّع الى حدّ ما، كالطبخ. “الحياة الجهاديّة مكثّفة عاطفيّاً، ممتلئة بتشويق القتال، حزن الخسارة، الفرحة برفقة السلاح، والابتهاج بالحياة الدينيّة”. هذه عناصر يشتبه بأنّها هي التي تجذب المقاتلين الى تلك الجماعة الارهابيّة.
القصائد والأناشيد
ولا يمكن المرور بالتنظيم من دون ذكر أناشيده “الجهاديّة”. ففي جولة على أبرزها يلاحظ المرء أنّ نسخاً عدّة منها على مواقع اليوتيوب معنونة باللغة العربيّة يقابلها العنوان نفسه مقروءاً بالعربيّة، إنّما مكتوب بالأحرف اللاتينيّة. وتتشابه جميعها في الألحان والأداء والكلمات حيث ينصبّ التركيز فيها على محاربة ما يسمّيه الكفر والطاغوت، بالاضافة الى إقرانها بصور من معاركه، غالباً ما يحذفها الموقع بعد فترة قصيرة لصورها الشنيعة. ومن الأناشيد أيضاً ما هو مترجم الى اللغات الأجنبيّة. وتُرجّح بداية ظهورها في سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي في #أفغانستان وخصوصاً الحقبة التي شهدت استفحال الصراع بين المتطرّفين الأفغان والسوفييت. وتعدّ تلك الأشرطة التي تترواح مدّتها بين الدقائق والساعتين أحياناً، وسيلة التعبئة الأولى وتحديداً للفئات الشابّة من أجل الانخراط في المعارك العسكريّة أو العمليّات الانتحاريّة. ويشكّل اللباس الخاص بالمقاتلين إطاراً توحيديّاً يساهم هو الآخر في خلق مظهر “فريد” يتحوّل لاحقاً الى جزء من الهويّة القتاليّة لعناصره.
ولا تقتصر كتابة الأناشيد على الرجال. مدوّنة “أحلام النصر” تنشر قصائد عدّة تنبثق عنها لاحقاً أناشيد تنشرها مواقع إعلاميّة تابعة للتنظيم كالبتّار وغيرها. وبحسب معلومة وحيدة على المدوّنة، إنّ صاحبتها وصاحبة القصائد فيها تعود لأنثى وتعرّف عن نفسها بأنّها الأديبة أحلام النصر. وعلى ما تنقله “نيويورك تايمس” إنّ الفتاة سوريّة الجنسيّة في العشرينات من عمرها، ( مصادر أخرى تقول إنها سعودية). وكان الاعلام تداول السنة الماضية خبر زواجها من أحد قادة التنظيم المعروف بأبي أسامة الغريب. وبحسب المدوّنة، لا تكتفي أحلام النصر بكتابة القصائد بل تكتب رسائل وردوداً توجّه الى التنظيمات الاسلاميّة المعادية لداعش أو إلى جهات عربيّة أو غربيّة أخرى. وبذلك تتّحد القصائد بالأناشيد ليولد من ذاك الاتحاد مجتمع يعبّر عن عواطفه السلبيّة بطريقة توحّد أعضاءه وتجمع أفراده.
الأحلام
ولا تتوقّف الدوافع عند هذه الحدود. فمن الحوافز غير المألوفة، بعض الشيء، والتي تدفع عناصر “داعش” الى القتال: الأحلام. هذه الأخيرة تعبّر، بالنسبة الى أفراد وحتى قيادات داخل التنظيم، عن رؤى مستقبليّة أو أوامر إلهيّة وما شابه ذلك. منذ حوالي أربعة أشهر، كتب روبرت فيسك مقالاً في صحيفة “الاندبندنت” البريطانيّة، يتحدّث فيه عن تعلّق مقاتلي “داعش” بالاحلام واهتمامهم بتفسيرها من أجل فكّ ألغاز المستقبل، أو من أجل استجلاء المقاصد الإلهيّة.
أشار فيسك إلى أنّ تنظيم “#القاعدة”، سبق “داعش” الى تفسير الأحلام. وفي الواقع كان هيغهامر تطرّق أيضاً في مقالته الى الزعيم السابق لحركة طالبان #الملّا_عمر الذي لم يكن يقدم على اتخاذ قرار استراتيجي من دون “الحصول على النصيحة من أحلامه”. أمّا فيسك فعاد بالذاكرة الى إحدى مقابلاته مع زعيم تنظيم القاعدة آنذاك #أسامة_بن_لادن حين أخبره عن حلم رآه أحد “الاخوة” يظهر فيه فيسك نفسه لابساً عباءة إسلاميّة، ممتطياً حصاناً ومسترسل اللحية. لكنّ الصحافي أشار حينها الى أنّه بعيد عن أن يكون رجل دين بل هو مجرّد مراسل للصحيفة يحاول نقل الحقيقة كما هي.
ونقل عن آين إدغار، أستاذ الانثروبولوجيا الاجتماعيّة في جامعة دورهايم والمتخصّص في أبحاث الاحلام وعلاقتها بعمل الدماغ، ملاحظات عدّة حول الأحلام لدى “داعش”. ففي 11 تمّوز الماضي، تحدّث أحد العناصر عن حلم “أخ” عن تحرير الحسكة في شهر رمضان وأنّ التنظيم يتقدّم باتّجاه الأكراد”. لكنّ هذا لم يحصل. ويتحدّث الارهابيّون عن أحلامهم تراودهم وتُظهر لهم طيوراً خضراء تسافر الى الجنّة في إشارة منهم الى قتلاهم في المعارك.
ونقل عنه حلماً لافتاً أيضاً “للأخ” أبو يوسف الذي كان يحرس الخطوط الأماميّة تحت شجرة مع مقاتل آخر وكان الى جانبهما أبو عمر الشيشاني. وفجأة ظهر أسد ورجل مقنّع. فقاما بقتل الرجل، أمّا الشيشاني فخنق الأسد بكلتا يديه. وتفسير الحلم بالنسبة الى التنظيم أنّ الرجل المقنّع هو الطاغوت والأسد هو المنافق والشجرة هي “#داعش”.
من هنا، نجح التنظيم الى حدّ كبير في بناء عالمه الخاص. ونجح بالمثل أيضاً في جذب الآلاف الى ذلك العالم وإبقائهم بداخله وإقناعهم بصوابيّته. ويتبيّن أنّ الدوافع الاجراميّة لم تكن وحدها قادرة على بناء منظومة بهذا الحجم. وربّما علم قادة التنظيم أنّ الميول الإجراميّة لا تبني مجتمعاً بل عصابة بالحد الأقصى. لذلك عمل هؤلاء على بناء وترسيخ مجموعة من الرموز تحوّلت الى حقائق تشبّثت بوعي ولاوعي مقاتلي “داعش”، إلى أن باتت تحرّكاتهم واحدة وأحاسيسهم مشتركة. حتّى أحلامهم أضحت متطابقة.
لكنّ تلك المعادلة التي طوّروها، تولّدت عنها أزمة عميقة، يلخّصها روبرت فيسك ببضع كلمات مؤدّاها: “لديهم أحلامهم، لدينا كوابيسنا”.
التعليقات مغلقة.