إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية، ليس قرارًا ابن ساعته، ولا امًرا معزولاً عما يجري في شمال #سوريا. فالإعلام التركي يعكس منذ اسابيع غليانًا سياسيًّا في شأن تركمان سوريا. وصارت المعارك الدائرة في #جبل_التركمان الذي ربما تركه الفرنسيون لسوريا في مقابل سلخ اسكندرون عنها، مسألة داخلية تركية.
منذ عسكرة التدخل الروسي في سوريا، وطائرات السوخوي تقصف هذا الجبل بينما تتقدّم القوات السورية في اتجاهه للسيطرة على قمة الزاهية في منطقة بايربوجاق في الريف الشمالي للاذقية. تقدّم يقابله هروب الآلاف من العائلات التركمانية الى السورية الداخل التركي. وهؤلاء تربطهم صلات قربى وصلات تاريخية مع تركيا التي توليهم اهتمامًا خاصًّا. وفي المقابل صار التركمان جزءًا من الحملة المضادة للسيطرة على حلب، كما للسيطرة على جرابلس للحفاظ على المعبر الاخير بين الدولتين الباقي تحت إشراف أصدقاء تركيا، ومنع التواصل بين القطاعات التي يسيطر عليها اكراد سوريا.
الروس يقصفون ريف اللاذقية بذريعة ان خصومهم المقاتلين الشيشان والاوزبك موجودون في ريف دمشق، فيما أصدقاؤهم في دمشق يريدون استرجاع السيطرة على هذه المنطقة الحساسة لتوفير الحماية للاذقية وطرطوس وجبال العلويين وفتح الطريق الى حلب. في المقابل تعتبر انقرة ان سيطرة أبناء لدنتها التركمان وحلفاءها في “الجيش السوري الحر” على هذه المنطقة يمهد لإقامة المنطقة الآمنة التي تتطلع اليها في شمال سوريا، بعدما نالت اخيرًا رضًى أميركيًّا للشروع فيها، بعدما عارضت واشنطن طويلاً هذا الطرح.
اذن نحن أمام إعادة إحياء مشروع منطقة عازلة تصير معسكرات للنازحين، يليها اعلان منطقة حظر جوي، وهكذا يعود التوازن العسكري المفقود في شمال سوريا بين النظام في دمشق وأصدقائه الروس من جهة، والمعارضة السورية وحلفائها الاتراك من جهة اخرى. وهنا نصير امام تركيبة سياسية جديدة تهدد بتغيير التوازن السياسي والعسكري، وربما بتقسيم سوريا . فاذا استمرت انقرة في دعم تركمان سوريا، فإنهم على الأقل مثل الاكراد سيطالبون بتثبيت حقوقهم، وهذا لن يساعد على ضمان وحدة سوريا.
قبل إسقاط السوخوي، تجددت محاولات عزل روسيا ليس فقط على الجبهة السورية، بل في المحافل الدولية ايضا. مجلس الامن تجاهل مشروع قرار روسي في شأن تكثيف الجهود في مجال محاربة “داعش” بعد العمليات الارهابية في باريس يتضمن إشراك القوى الفاعلة على الارض في هذه الحرب ومن بينها الجيش السوري، وتبنّى في المقابل مسودة فرنسية تخلو من هذه الاشارة. كما وجهت الرياض ضربة ديبلوماسية في الأمم المتحدة، حيث أقرّت لجنة حقوق الإنسان في الجمعية العمومية للأمم المتحدة مشروع قرار سعودي لا يشير مباشرة الى روسيا وإيران، ولكنه يدين التدخل في سوريا من “المسلحين الأجانب والقوات الأجنبية كافة الذين يقاتلون الى جانب النظام السوري” وبالذات الحرس الثوري و”حزب الله” ويدعو الى وقف الغارات الجوية.
وإزاء هذا التنوع في الضغط على روسيا يحضر تلقائيًّا الجواب على التساؤل: هل كان “الناتو” بعيدًا من سلوك تركيا صاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف؟ وهل ستجرّ اي مواجهة بين الاتراك والروس الحلف الاطلسي اليها؟ وهل نحن امام حرب قرم جديدة كتلك التي حدثت بين الامبراطوريتين العثمانية والروسية في القرن التاسع عشر، وشكلت بوابة لتغيرات سياسية في العالم آنذاك؟
حتما لا، فالاطلسي اراد من خلال تركيا توجيه رسالة واضحة بأن سوريا وشرق المتوسط لن يكونا أبدًا ساحة يحتكرها اللاعب الروسي وحيدًا، وتاليًا رسم حدودًا لدوره وخطًّا أحمر لما هو مسموح وغير مسموح. لكن اغلب الظن ان لا روسيا ولا “الناتو” في وارد الدخول في مواجهة مباشرة تقود الى حرب عالمية ثالثة صارت بحكم المنبوذة دوليا، وهذا بدوره يندرج على اي مواجهة تركية روسية مباشرة، وتاليا سيتجاوز الصراع بين الطرفين الحرب بالوكالة في سوريا الى مواجهات محدودة بينهما ميدانها الوحيد الارض السورية، لا سيما في الشمال حيث ستسعى #تركيا الى إبقاء سيطرتها على المعابر وتأمين منطقة آمنة لاصدقائها، ومن ثم تغذية انقرة للنزعة التركمانية من تراقيا الى تركستان الشرقية في شينجيانغ. فيما تريد روسيا تعزيز مناطق سيطرة النظام و”الاصدقاء” الاكراد، والتعامل مع كل المعارضات السورية المسلحة على انها مجموعات ارهابية، حتى تثبت العكس بقبولها بمبادىء التسوية التي جرى الاتفاق عليها في #جنيف، وربما تذهب الى ما هو اخطر بتقديم الدعم السخي للثوار الاكراد، ليس فقط في سوريا بل في تركيا نفسها. لكن هذا مثله مثل اعلان الحرب ودونه حسابات معقدة. وفي انتظار ان تترسخ اي من وجهتي النظر الروسية او التركية على الارض، يمكن انتظار سقوط طائرات عدة من هذا الجانب او من ذاك، بينما المسكينة سوريا وشعبها يواصلان دفع أثمان لعب الكبار على أرضهم وتزداد أزمتهم تعقيدًا بدل ان تحلّ.
التعليقات مغلقة.