تابعتُ في الأمس سلسلة من التقارير الصحافيّة التي أعَدّتها إحدى قنوات التلفزة الفرنسيّة وتمحورَت في جانب منها، على قيام بعض الفرنسيين المُسلمين باستنباط أساليب جديدة للدفاع عن أنفسهم منذ أن إغتَصَبَت – والتعبير لأحد الناشطين في هذا المجال – #إعتداءات_باريس الأخيرة هويتهم وحَوّلتهم قسرا إلى نماذج تتماهى مع الإرهابيين الذين استباحوا العاصمة الفرنسيّة، وتركوا الموت يجثم أرضا.
في خضم النصوص التي تعاملَت مع صدمة الهجمات الدمويّة الأخيرة التي بلغت العاصمة الباريسية في تشرين الثاني المنصرم، ربما يكون نصّ الباحث في العلم السياسي والمُتخصّص في الإسلام أوليفيه روا في صفحات “لو موند” من بين أكثر المقاربات تبصّرا.
بدا روا خارجا على السياق الإختزالي العام حين تناول التطرّف الذي تسلّل إلى جزء يسير من الجيل الشاب المُسلم في فرنسا، لافتا إلى أن هذه النزعة المجتمعيّة لا تتعلّق بـ “تطرّف الإسلام وإنما بأسلَمَة التطرّف”.
يستدرجنا كلام روا إلى مفاهيم تناقض السهولة التعبيرية التي باتت عملة سائدة عند تناول مسائل شائكة وتعاكس النزوع صوب الإستسلام إلى أفكار تقزيمية جاهزة يسهل “هضمُها”.
في “الإستشراق” الصادر بالإنكليزية، في 1977، شخّص إدوارد سعيد الإختلاف العميق بين الرغبة في فهم الآخر بغرض التعايش معه وبغية توسيع الأفق وبين الرغبة في التقرّب منه بهدف السيطرة. حاول سعيد تشريح هذا المُقترب وسواه في مؤلّف يتراءى، راهنا، المكان الرحب الذي يتّسع لجميع إستفهاماتنا وهواجسنا، لاسيما بعدما غدت مناعتنا هشّة إلى حدّ مخيف، وبتنا قسرا فريسة سهلة للأشكال النمطيّة.
لأكثر من سبب منوط بالتقهقر الفكري المتشبّث بنا في الأعوام القليلة المُنصرمة وبات يُلزمنا بأن نتحمّل تبعاته، وفيما نتقدّم في وسط البؤس العربي العظيم الذي يلفّنا غضبا عنا، لن يضيرنا أن نعود إلى الكِتاب، بل يتعيّن علينا أن نلوذ بالكُتب كتميمة تقينا شرور الجهالة المتربّصة بنا.
نعود إلى مؤلّف سعيد المرجعي حيث فَصّل طريقة النظر إلى بلدان الشرق الأوسط وشعوبها والمارّة بعدسة مكبّرة تشوّه الواقع كجزء من الإستشراق المستخدم للإشارة إلى إطار عام يشمل كلّ ما عُدّ غير مألوف وغريب. يَذكُر سعيد في نصه كيف جرت الإستعانة بالإستشراق ليبدو ناس هذه المنطقة مثيرين للريبة والخشية على السواء.
واليوم، من اللافت أن يقدّم التطرّف والإرهاب ذريعة ملائمة لتصير المقاربات الإختزالية لهذا الجزء من العالم والمقيمين فيه أو المتحدرين منه، حالة عامة يكاد يصعب التملّص منها.
ما فعله التطرّف الأعمى هو أنه طوّر صورة عن الشرق الخارج على الزمن وغير القابل للتطور، بل أكثر أضاء على شرق لا يسعه سوى أن يسير عكس وجهة التاريخ بل وأن يقيم خارجه حتى.
كانت دوافع سعيد ليتمهّل عند الإستشراق، كما يوضح، منوطة بأمرين. الصراع العربي الإسرائيلي أولا، ولاسيما حرب 1973 وما استقدمه من صور ونقاشات في شأن العرب. والتضارب الذي شعر به ثانيا، بين تجربته كإنسان عربي وبين كيفية تصوير هذا الإنسان، على المستوى الفني.
يحاجج سعيد في “الإستشراق” ان مرماه الأساسيّ أنيط باستخدام النقد الإنسانوي لفتح مجالات النقاش، وبغية الإتيان بنمط من التفكير والتحليل أكثر إسهاباً يستَبدلُ هبّات الغضب الجدالية والمعيقة للتفكير التي تأسرنا في تصنيفات جاهزة وفي نقاش تهجميّ هدفه الوصول إلى هويّة عدائية جماعيّة عوضا من الفهم والتبادل الثقافي.
ما يشير إليه سعيد في إطاره الثقافي أولاً، صار واقعا ملموسا في كثير من وسائل الإعلام التي تتأمل الجزء كأنه الكلّ.
كنتيجة بديهية للتطرّف في بيئتنا القريبة، صرنا جميعا وعلى نحو ما، متّهمين إلى حين نُثبتُ براءتنا.
رلى راشد
التعليقات مغلقة.