الحريري الجوعان وجنبلاط المرتاح

حين حلَّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ضيفًا في تموز الفائت على بيت الوسط، كان المشهد السياسي في مقلبٍ آخر تمامًا. احتاج يومها “البيك” هذا اللقاء منصة للردّ مباشرة على أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله… وإن من خرم “معمل فتوش”، وذلك بعدما كسر “السيّد” قواعد الاشتباك مع “البيك” ما دفع الأخير الى معاملته بالمثل!

الخلاف السياسي مع الحزب، كان في أوجّه على خلفية أحداث البساتين – قبرشمون، وإن كانت قنوات الداخل على خط كليمنصو – الضاحية تعمل بصمتٍ من أجل استيعاب تداعيات أزمة الجبل.

شكّل اللقاء يومها محطة في سياق “صيانة” العلاقة بين جنبلاط والرئيس سعد الحريري بعد مرحلة من الجفاء وتبادل الرسائل بالواسطة، ومناسبة للتنسيق بالتزامن مع إحالة مشروع موازنة 2019 الى مجلس النواب، وعشية انعقاد مجلس الوزراء بعد انقطاع دام 40 يومًا نتيجة أحداث قبرشمون.

بين تموز وايلول، يبدو لقاء جنبلاط والحريري كمَن يطوي صفحة خلافٍ استعصى على الحلّ ووصل الى حدّ رفض رئيس “الاشتراكي” استقبال رئيس الحكومة في منزله ردًّا على “سلوكية” الحريري في المناورة أبّان مفاوضات تشكيل الحكومة نهاية العام الفائت والتي لمَس جنبلاط من خلالها تخليًا حريريًّا عن الالتزام بحصة المختارة الوزارية.

بدا ذلك، تتويجًا لجبل من المآخذ الجنبلاطية على الحليف “المفترض” ليس أوّلها إقرار قانون النسبية بشكله الحالي وخوفه من دفع ثمن التسوية الرئاسية وليس آخرها أزمته مع “شعبة المعلومات” ومديرية قوى الامن الداخلي وما بينهما أزمة ثقة استفحلت تدريجًا لكنها لم تمنع بيك المختارة من تسمية الحريري رئيسًا للحكومة فيما دفعت الاخير الى الاستسلام ردًّا على السقوف العالية التي رفعها جنبلاط بوجه إبن رفيق الحريري “هذا وليد بيك… شو منعمل معو”.

“انا جوعان يلّا”. توجّه الحريري الى جنبلاط بالقول حين كان الأخير يقول للصحفيين قبل بداية عشاء كليمنصو “هناك أمورٌ نتفق عليها مع الحريري وأخرى قد نختلف بشأنها. والحديث يبقى بالداخل”. لم يخطئ الحريري كثيرًا باستخدامه هذا التعبير.

في كلّ ما يفعله رئيس الحكومة، يظهر “جوعًا” عتيقًا لاستنفار كل قوى الداخل من أجل مواكبة “ورشة الاصلاحات” الأكبر منذ عهد “الطائف” للململة وضع اقتصادي ومالي أقلّ ما يمكن أن يقال فيه أنّه “سيء” وسبق للحريري أن وصفه بـ “الخطير”، وذلك تحت وطأة ضغط دولي لا مثيل له بات يضع الداخل اللبناني تحت رحمة أشهرٍ من الاختبار… وإلّا الانهيار!

هكذا، فإنّ جنبلاط الذي ارتاح من أثقال خلافه الذي طال مع “حزب الله” بالعودة الى منظومة “التنظيم والتنسيق” والحريري الذي خرج لتوّه من معركة “كربجة” حكومته وظَفَر بموازنة “سوبر تقشفية” يريدها أن تتوَّج بموازنة “ضمن تواريخ دستورية لأول مرة، وضمن خطة لخمس سنوات تطاول الموازنات اللاحقة” على أساس رؤية اقتصادية واضحة ترضي أولياء “سيدر”، يجلسان اليوم قبالة بعضهما مع سلّة من المطالب المتبادلة:

لجنبلاط مآخذ على الورشة الاقتصاية المفتوحة على المجهول حتى الآن، قالها بالتواتر لأصحاب الحل والربط من بعبدا الى عين التينة والضاحية وصولاً الى بيت الوسط على رأسها الاصلاح في قطاع الكهرباء، لكن منبع القلق الاساس يبقى مشاريع الاستهداف بالسياسة على ابواب انتقال الزعامة من الاب الى الابن.

هكذا تصل التطمينات، وبالمفرّق، بأن لا مخططات لاستفراده وتطويقه ليس فقط داخل الجبل، إنما بعد كل ما أثير عن شراكة ملتبسة بين الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، بحيث تكون نتيجتها وضع “البيك” خارج طاولة القرار. ولا بأس أن تأتي التطمينات أيضًا على شكل وعود بعدم المسّ بالحصة الجنبلاطية في التعيينات ومحاذرة تعاطي “دولته” مع “البيك” كما يتعاطى مع “الحكيم”!

أما الحريري، فشهيته المفتوحة بسبب “الجوع” لن تمنعه من التخفيف من خطوط التوتر مع الجميع، وأيضًا إزاحة من يمكن أن يشكِّل عائقًا أمام انطلاق قطار “سيدر” والاصلاحات من أجل مدير عام من هنا أو قاض من هناك.

لم تعد العناوين السياسية تأتي في الصدارة. يبدو الحريري “مهجوسًا” بحسابات الاقتصاد والمال. ومن أجلها سيذهب بعيدًا جدًّا في إزالة الالغام أمام خارطة طريق خفض الدين العام ورفع معدلات النمو وتنويع مصادره وتأمين استدامته التي عرضت أمام “سيدر” وعلى أساسها أطلقت الوعود بالمشاريع… كلّ ذلك، تحت سقف الالتزام الدائم بتسوية رئاسية، مهما اقترب من المختارة وعزَّز التحالف معها، يريدها أن تبقى بمنأى دائمًا عن ارتجاجات الداخل.

ملاك عقيل

التعليقات مغلقة.