شارع بدارو : مبتدأ بيروت التي غدا منتهاها

مَن يستيقظ باكراً في بدارو، يدرك أن صباح هذا الشارع لا ينتهي سريعاً، ذلك، أنه يمتد على طول اليوم، وهو، بذلك، يبدو يسير الإنبساط. فالطرق توفر له وسعها، والأشجار المزروعة على الأرصفة تعتني بالفيء الذي تحصّله منه، والمباني توليه وجوهها، أما المحلات، فتتحينه حتى تتيح دخوله إليها.

لا جلبة لهذا الصباح، ولا ضوضاء، فمع أنه، عندما يحل، يحضر في أثنائه الموظفون، وتلاميذ المدارس، والمتريضون، والمشاؤون بصحبة كلابهم، عدا عن السيارات والدراجات النارية، لكنه، يبقى مرتاحاً إليهم، وهادئاً في استقبالهم. فلا يستعجل تبدده عنهم بعد أن انحنى عليهم، وبدورهم، لا يحثون خطاهم على بعثرته بعد أن انصرفوا إليه. بالتالي، يظل صباحاً سليماً، غير مجروح، ويظل متريثاً، وبالفعل نفسه، غير بطيء. ذلك، إلى أن يعطي رحبته لأوقات أخرى، من منتصف النهار حتى آخر الليل، ومع هذا، لا ينسحب ولا يتشتت لصالحها، بل يلوح فيها.

لهذا الصباح قدرة على تشكيل شارع بدارو، ليس لأنه يعرّضه فقط، بل إنه يبين عيشه المتواصل في بدئه. فكل شيء في هذا الشارع يستوي في مستهله، وفي بعض الأحيان، يحس ساكنه أن كل شيء يؤول منه. فبدارو بمثابة مبتدأ في جملة إسميةٍ، لها أخبارها الكثيرة.
خبر الدولة، التي تظهر بمؤسساتها الرسمية، الخدماتية والعسكرية، كالصندوق الوطني للضمان، ومكتب الشؤون الإجتماعية، ومكتب وزارة العمل، ومكتب وزارة الإتصالات، والمؤسسة العامة للإسكان، والمستشفى العسكري إلخ. خبر التسلية، الذي توفره مراكزه، خبر الجلوس والحديث في المقاهي، خبر السهر وشرب الكحول في الحانات، خبر الإجتماع المدني عبر منظماته غير الحكومية، خبر الطبقة الوسطى التي تتأنى في إتقاء غيابها، وتتمهل في إبرام استمرارها. وطبعاً، خبر السكن، وخبر إقامة المتقادم في قرب المستجد بلا خشونة، وبلا ليونة.

كل هذه الأخبار توضح مبتدأها، أي شارعها، وتنسجم معه في جملته، التي، ومع أنها نشأت في بداية ستينات القرن المنصرم، لا تزال تجمع بين ألق خافت وثبات هادئ. فلا تنكسر على وقع الزمن البيروتي، ولا تنقطع عنه، تستقر على نشاط وديع، يشارك في إنتاجه القاطنون في بدارو، والوافدون إليه من مدينتهم، التي، وفي إثره، تنجلي ملتصقة به ومفارقة له على حد سواء. فالمجيء منها إلى هذا الشارع، يشعر ممارسه أنه لم يعد في مدينته الراهنة، بل في إبانها، في أولها، في تمهيدها، الذي لا يلخصها، بل يتخيل ما كان ستصير عليه، إلا أنها نأت عنه، فاعتزلها لابثاً في ريعانه، وهدرته ماكثةً في رعونتها. بدارو هي مطلع من مطالع بيروت، الذي لم تأخذ به، فتحوله إلى مأتاها، لكنها، أبطلته، فغدا، في حاضرها، ومن وطأة الضيق فيها، منتهاها، بمعنى آخرها والغاية منها.

لا مبالغة في القول أن شارع بدارو هو جرعة إنفساح في مدينة منقبضة ومقبوض عليها. كما أنه، وبهذه الحال، يوطد صباحه أكثر، لدرجة أن مساءه، وسَمَره على العموم، يبدو كأنه صبيحة طويلة، تنال عتمتها من جراء انخفاض الضوء، وليس من جراء فصله، وتنال صوتها من جراء التقابل والتكالُم، وليس من جراء الإرتطام والمصاخبة.

فبدارو، وعلى عكس شوارع أخرى، لا ينزل الليل فيه على تناقض شديد مع نهاره، بل إنه يبلغه متدرجاً، إذ يلاطفه بعد الظهر، ويطمئن عليه عند المغيب، قبل أن يغطيه بدون خنقه، ماضياً إلى مجمل نواحيه. فليس الليل، على نحوه الـ”بداروي”، عدو النهار، لكنه، رفيقه، بحيث إن الساهرين، والعاملين، والقاطنين، لا يتعارضون ولا يتعاكسون، لا يتزاحمون ولا يتدافعون. وهذا، ربما، لأن كلاً منهم يجد في الشارع فُرجةً له، وهذا، ربما، لأن الشارع يعلمهم مصادقة صباحه الدائم في ضيائه، وفي دُهمته أيضاً.

روجيه عوطة

التعليقات مغلقة.