السيجارة في دكاكين الحارة : الدكنجي وميريام كلينك والأستاذ نبيه

دكان طلال، دكان السيد هاشم، دكان منى، دكان عباس بصل، محل أم حبيب، والأهم دكان أم عبير. تتعدّد الدكاكين والشارع واحد، شارع ساحة الضيعة في النبطية الفوقا.

تتعدّى مهمّة هذه الدكاكين بيع الخبز وعلب الدخان. هي مقاهي ومراكز صنع رأي وساحة للزيارات الاجتماعية و”فايسبوك واقعي” لأبناء الضيعة. تتوزع بمسافات متقاربة.

الدكنجي جاره دكنجي. ولكنّهم مختلفون عن بعضهم البعض، جزء يجذب الشباب وجزء يجذب كبار السن. ثمة من يجذب هواة كرة القدم وثمة من يجذب هواة التحليل الإستراتيجي.

تمر قرب دكان طلال، الرجل الستيني الأشقر بملامحه الروسية، فتجد الكراسي موزعة أمامه. دكانه قهوة شعبية لمن هم فوق الأربعين. يجلسون بشكل يومي متناقلين أحاديث عابرة للقارات: علاقة ترامب بالماسونية، الحرب العالمية الثالثة، من يفضّل الشاي ومن يفضّل القهوة، فيفي عبدو وتحية كاريوكا وأيام الزمن الجميل، الـ”واتس آب” والنساء، تسعيرة “الخمسة أمبير”، تقييم أداء البلدية، ميريام كلينك والأستاذ نبيه. أحاديث تشعر خلالها كأنّك داخل مجلس النواب وحوارات ترتفع معها الأصوات وتنخفض بمرور السيارات.

يقع دكان طلال بالقرب من مسجد الإمام الحسين في الضيعة. يدخل المصلون إليه متباركين بوجوه المتحاورين المدافعين عن حقوق المواطن من أمام الدكان، فأبو علي الجريش يأتي طالباً علبة سجائر ويعود محمّلاً بهمّ الشعب وبآهات المعذبين في الأرض. لا يأبه لقربه من المسجد، فينتقد الفاسدين من أهل السياسة يرافقه نقد أهل النفاق من المتدينين.

يوافقه الجميع. يرد أبو داوود بأنّ ذلك الحاج يضع ثلاث خواتم بيده ويبقى بداخل المسجد ليل نهار، لكنّه يستغلّ بساطة الناس بجشع كبير في عمله. يتدارك الحاج أبو علي بصل قائلاً: “في كل مكان يوجد الصالح والطالح حتى في الجنّة هناك الصالح والطالح، والعنوان الدائم المصالح”.

يلاصق دكان طلال ميني ماركت السيد هاشم. يجلس ذلك السيد الراقي يجلس في محله وكأنّه سلطان عثماني. السيد هاشم رجل مختلف. يجيد التحدث أمام الكاميرا بثقة. لا يحب الضجيج، هادئ ومتّزن ومحبّ للناس. يمتلك لساناً معسولاً وذكاءً بجذب الزبائن. يدخل إليه أحد الأطفال سائلاً عن سعر لوح شوكولا. لا يقول له مئتين وخمسين ليرة بل “الأربعة بألف”، فيشتري الطفل أربعة. يستذكر السيد هاشم بجلسته ماضيه في السفر والتجارة ومعاشرة الناس. شعاره الدائم “ما بتتعلم إلّا من كيسك”.

يحثّ الجميع على خوض التجارب. بنظره المتردّد في الحياة لا مكان لنجاحه. تعتمد ميني ماركت هاشم فلسفة التخطيط والدقة. بينما مدرسة دكان طلال، فتعتمد فلسفة “ورقة اللوتو” و”اتركها على ربك”. هكذا يفصل حائط إسمنتي بين التوجّه للنظام والتوجه للفوضى في الفيزياء السياسية للدكاكين.

أما في الجهة الأخرى من الشارع، فيتواجد دكان منى أو دكان الأستاذ حاتم. “المحل” مشترك للأخوين. هو من الخارج ميني ماركت ومن الداخل سوبر ماركت، غير مخصّص للأحاديث السياسية بل ليوميات النساء. تدخل إليه، فتجد أم حيدر تنقر الكوسا بالتعاون مع منى. على الطبخة أن تنتهي سريعاً فالدركي حيدر عائد من خدمته وهو يتضور جوعاً. بجانب الكوسا تتواجد ركوة القهوة. تلك الركوة مقدسة عند منى. تتبادل قهوتها مع أم حيدر وأم محمد وأم علي وأخريات.

أما التلفاز، فهو ركن أساسي. تحتل المسلسات الشامية القائمة، وبالأخص “باب الحارة”. كيف لا، وأم حيدر تستلهم حركات الطبخ من يديّ أم عصام طباخة المسلسل. لا تكتفي أم حيدر بالنقر، بل تصير المحاسبة الخاصة بمنى. فلا بأس، إن أعادت لك ألوفاً برائحة الكوسا. عندها، ولو كنت من مناصري الحركات النسوية، تقف ذاكرتك عند مسلسل باب الحارة شاكراً أم عصام وشامتاً بأحلام مستغانمي. فأنت دخلت لتشتري لوح “سنيكرز” كي تسدّ جوعك، وخرجت بأوراق نقدية عليها رائحة الكوسا محشي.

ترجع إلى الشارع، فتجد أيضاً دكّانا عباس بصل، وولي عهده فضل، طالب الحقوق، ومشجع ريال مدريد و صاحب الخبرة في مجال التلفونات والانترنت. تدخل إليه، فتجد القانون الدستوري على الطاولة وفوقه سطل لبن، وخلفه كنبة عليها “بلايستايشن” وبجانبها كتاب “منهجية البحث”. يتميّز هذا الدكان بهذه الخلطة الفريدة.

هذه الفوضى المنظمة تصيبك بالضياع، فما الذي يتخصّص به هذا المكان؟ دولارات “ألفا” و”تاتش”، إنترنت للمنازل، دكان سمانة، ثم تكتشف بأنّه سنترال للعاملات الأجنبيات. عندما يذهب فضل إلى الجامعة، يداوم الوالد والوالدة مكانه. فمحامي المستقبل يحضّر نفسه جيّداً للـ”ستاج”، دروس نظرية قبل الظهر وتطبيقية بعد الظهر، ليس في المحاكم بل في الدكان.

قبالة دكان عباس بصل، محل من نوع آخر. محل أم حبيب المعروفة بنضالها النسوي التحرري. لديها أكسسوارات وثياب نسائية وبعض أدوات التجميل. تقصّ أم حبيب القصص، وتقصّ أيضاً أظافر من يعارضها. يجتمع عندها الرجال والنساء لمناقشة مواضيع اجتماعية. يرتفع صوتها عند الحديث عن الحراك المدني وأسباب فشله فهي ترفض الاستسلام بوجه الفساد، ثم يقاطعها ابنها حبيب سائلاً: “شو عاملة أكل اليوم؟”. فتجيب: “خود تلات آلاف من الجزدان وجيب علبة طون من عند عباس بصل”. لا يوجد معلبات في محلها، وإن وجدت فستصبح مكتفيةً ذاتياً فيتحوّل محلها إلى منزل أيضاً بعدما صار مركز جمعية.

بجانب أم حبيب، يوجد محل حياة. خياطة الضيعة. محل يشعرك بالدفء. تدخل إليه فتشعر أنّ حياة بدأت بحياكة كنزة صوف لك مباشرة. تجلس معها والدتها العجوز أم جعفر. تستذكر عندها قصة “قميص الصوف” لتوفيق يوسف عواد. ولكن هنا، الخياطة هي الابنة، والمرتدي هو الوالدة وأبناء الضيعة. تحمل الإبرة والخيط كأنّها تحمل المنجل والمعول في وجه مصاعب الحياة.

أما الدكان الأبرز في شارع الضيعة فهو دكان أم عبير. تجمُع الشباب الأول في القرية. ليس مجرد مكان لبيع البطاطا والأندومي والبيبسي، هو “قبلة” أبناء الضيعة. محبو كرة القدم، وعشاق السياسة، ورواد الشاي والقهوة. لأم عبير ثلاثة أولاد، لكنّها أم الجميع. بعد وفاة زوجها حملت العائلة على أكتافها لتصل بها إلى بر الأمان. يمتلأ الدكان بالمرح . ابنها عباس فنان دربكة، مع كل عملية شرائية تربح وصلة مجانية مع إلقاء بعض المواويل. تحتدم النقاشات بين مشجعي الكرة.

علي منصور حوماني، الملقب بالذهبي، مشجع برازيلي. يتبادل النقاش الحاد من الدكان مع كافة الجالسين على شرفاتهم المجاورة. تشعرك المقاعد الخشبية أمام الدكان أنّ نجيب محفوظ وأنطون تشيخوف قد جلسوا عليها بحثاً عن الإلهام. سيجارة أبو علي الدندش التي تمر عبر المكان تحمل معها يوميات سائق تاكسي. أما ابنتها فاطمة، التي تدرس علم النفس، فتؤدي تماريناً على الزبائن.

تضع كرسي فرويد الهزاز إلى جانب براد البوظة والبيرة الشرعية. وعندما يأتي الحاج أبو حسين لشراء “بوم بوم” ظنّاً منه أنّها فياغرا رخيصة، يتهامس حمزة وعباس: “ليلتك ولعانة يا بو حسين”.

بينما يشكّل دكان أبو مرعي الطلقة الأخيرة التي يحملها هذا العجوز في الحياة. كأنّه ينفض بها غبار الذكريات التي تتراكم مع المعلبات والسكاكر وقصص زبائنه العجزة.

في رأس الضيعة يقع دكان قديم. تدخل لتشتري بطاريات “ريوفاك” من عجوز يجلس على نور الشمعة أمام كانون يحترق فحمه مع قشور الأفندي، وهو يستمع لطليع حمدان عبر الراديو. إنّه عبد الزين، الذي واكب تطور “السيديرس”، لكنّه بقي وفياً لسيجارته “اللف”.

يبصق الحاج ليصنع السيجارة، وبتلك البصقة يُقيم الحياة قبل أن ينفخ في هواء الدكان المليء برائحة قشور الأفندي المحترقة قائلا: “انفخ عليها تنجلي”.

عباس الحاج أحمد

التعليقات مغلقة.