مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان : رياض سلامة خالف القانون

ان المهام المنوطة بمصرف لبنان، بموجب القوانين النافذة، هي تأمين السيولة للمصارف، عند الحاجة، وفقاً لشروط خاصة (ضمانات…)، وليس تعدّي ذلك الى تعزيز الاموال الخاصة للمصارف وتأمين ملاءة هذه الاخيرة».

هذه هي خلاصة المطالعة (الوثيقة المنشورة أدناه) التي أعدّتها مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان، ورفعتها الى حاكم مصرف لبنان، بتاريخ 4 آذار الماضي. وهي تنطوي على «اتهام» غير مباشر له بمخالفة القوانين في العمليات التي نفّذها مع المصارف، على مدى النصف الثاني من العام الماضي، تحت اسم «الهندسة المالية»، وقيل الكثير في مدحها وذمها.

مدير الشؤون القانونية، بيار كنعان، الذي وقّع على المطالعة، كان يبدي الرأي القانوني، بناءً على طلب سلامة نفسه، في كتاب تقدّم به «سيدروس انفست بنك»، في 13 شباط الماضي، ويطلب فيه الدعم من مصرف لبنان، عبر هندسة مالية خاصة، تمكّنه من تطوير بنك «سيدروس» (التابع) وتنميته وزيادة عدد فروعه وقيمة ودائعه خلال السنوات الثلاث المقبلة (…) وإطفاء خسائره المتراكمة المسجلة في حساباته للسنوات الماضية والخسائر المتوقعة حتى عام 2019!

شكلت هذه المطالعة في توقيتها ومناسبتها مفاجأة حقيقية، ووفرت وثيقة مهمّة جداً لإثبات واحدة من اكبر المخالفات القانونية المرتكبة في ادارة البنك المركزي، ولا سيما عشية طرح تجديد ولاية سلامة حتى عام 2023، بعد اربع ولايات متتالية امتدت على ربع قرن تقريباً.
لم تكتف مديرية الشؤون القانونية بالاعلان عن انها «لا يسعها التوصية بالموافقة على طلب سيدروس انفست بنك»، بل اعلنت بوضوح تام، في خلاصة مطالعتها، أن كل عملية يجريها مصرف لبنان بهدف تعزيز رساميل المصارف وملاءتها هي عملية مخالفة للقوانين النافذة وتتجاوز المهام المنوطة بحاكم مصرف لبنان وفقاً لهذه القوانين، ما يعني أن «الهندسة المالية» الاخيرة، التي أجراها سلامة، ودافع عنها كثيراً، هي عملية غير قانونية، يمكن أن تعرّضه للمساءلة، في حال كان هناك من يريد مساءلته طبعاً، أو يقوى على ذلك.

تحدد المادة 33 (المعدلة وفقاً للقانون 8/75 تاريخ 5/3/1975) من قانون النقد والتسليف صلاحيات المجلس المركزي لمصرف لبنان، ومنها أن المجلس هو الذي «يحدد سياسة المصرف النقدية والتسليفية (…) ويحدد، على ضوء الاوضاع الاقتصادية، معدل الحسم ومعدل فوائد تسليفات المصرف ويتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف». بمعنى أن حاكم مصرف لبنان كان ملزماً بعرض «الهندسة المالية» على المجلس المركزي، ولم يفعل. كذلك تنص المادة 102(المعدلة وفقاً للمرسوم 14013 تاريخ 16/3/1970 والمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973)، أنه «لمجلس المصرف (وليس الحاكم وحده)، في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى، التي قد تلزمه إلى تلبية حاجات الاقتصاد الملحة للحفاظ على استقرار التسليف، ان يقرر منح تسليفات استثنائية، مؤمنة على قدر الحاجة بضمانات عينية (…)، مقدمة إما من المصرف المستقرض نفسه، أو من اعضاء مجلس إدارته، أو من زبائنه، ويحدد مجلس المصرف نوع الضمانات اللازمة وشروط منح التسليفات الاستثنائية واستحقاقاتها».

بمعنى أن المجلس المركزي هو صاحب الصلاحية، وهو مقيّد قانوناً بالوسائل التي يمكن اعتمادها في «حالة الازمة»، وهي تنحصر بمنح تسليفات للمصرف الذي يواجه «أزمة» في مقابل رهن عقارات أو أسهم أو سندات وغيرها، بما في ذلك الاموال الشخصية للمساهمين أو حصصهم في الملكية، وبالتالي لا يجيز القانون تقديم «أرباح استثنائية» لدعم ارباح المساهمين وزيادة ثرواتهم المتمثلة بملكيتهم للاموال الخاصة للمصرف، وهو ما جرى في «الهندسة المالية».

عملية سخية بلا سند قانوني

بالاستناد الى آخر تقرير مسرّب (غير منشور) حصلت عليه «الأخبار»، يتبين أن مصرف لبنان قام (حتى نهاية عام 2016) «بشراء سندات خزينة لبنانية وشهادات إيداع إصدار مصرف لبنان من المصارف بقيمة 20.912 مليار ليرة (ما يعادل 13.961 مليار دولار)، بفائدة حسم بلغت صفراً في المئة. نتج من ذلك فائضاً (ربحاً) بلغ 8.255 مليارات ليرة (ما يعادل 5.5 مليارات دولار ارتفع في الشهر الاول من هذا العام الى 5.6 مليارات دولار بحسب اعتراف جمعية المصارف). في المقابل، قامت المصارف بالاستثمار في سندات «يوروبوندز» وشهادات ايداع بالدولار الاميركي من إصدار مصرف لبنان بالقيمة الاسمية نفسها للادوات المالية بالليرة التي تم بيعها لمصرف لبنان، أي ما قيمته 13.961 مليار دولار».

وبالاستناد الى هذا التقرير ايضاً، يتبين ان مصرف لبنان سمح للمصارف بالمشاركة في هذه العملية لحساب وحداتها التابعة في الخارج، بقيمة بلغت 976 مليار ليرة حققت ربحاً بقيمة 310 مليارات ليرة، كذلك سمح لها بالمشاركة لحساب عدد من كبار المودعين بقيمة بلغت 4.460 مليارات ليرة حققت ربحاً لهؤلاء بقيمة 1.112 مليار ليرة (ما يعادل 738 مليون دولار). ويتبين أيضاً من التقرير نفسه، أن مصرفين فقط من أصل 35 مصرفاً مشاركاً استحوذا على 47% من مجموع الربح المحقق من هذه العملية، وان مصرفاً واحداً شارك لحساب وحداته التابعة في الخارج، وأن 4 مصارف فقط شاركت بتفاوت لحساب زبائنها.

لم تقتصر كلفة هذه «الهندسة» على الربح المباشر الفوري المحقق منها (5.6 مليارات دولار)، بل تتعداها الى ارباح سنوية طائلة ستتحقق من توظيف نحو 13.961 مليار دولار في سندات «اليوروبوندز» وشهادات الايداع بالدولار على متوسط 10 أعوام، بفائدة وسطية تبلغ 6.5%، أي إن وزارة المال ومصرف لبنان سيسددان سنوياً أكثر من 900 مليون دولار من المال العام على هذه العملية، أو ما مجموعه 9 مليارات دولار على 10 أعوام. ليس هذا فحسب، بل ستتحقق ارباح سنوية اضافية من اعادة توظيف نحو 20.912 مليار ليرة من السيولة بالليرة التي نتجت من «الهندسة». وفي هذا السياق، عمدت وزارة المال، خلافاً للقوانين ايضاً، الى امتصاص نحو 14% (حوالى 3000 مليار ليرة) من هذا المبلغ، من دون ان تكون بحاجة اليه لتمويل العجز، وتسدد عليه فائدة تبلغ 5%، على 5 سنوات، أي إن المصارف تحقق ربحاً بقيمة 146 مليار ليرة سنوياً، وما مجموعه 732 مليار ليرة على 5 سنوات.

ان حساباً بسيطاً لكلفة «الهندسة المالية»، او الربح الناتج منها، يوصل الى رقم يفوق 15 مليار دولار، من دون احتساب الكلفة غير المباشرة التي ترتبت من زيادة المديونية العامة وزيادة السيولة بالليرة الجاهزة للمضاربة وتعريض «السوق» لآثار سلبية مباشرة، عبّر عنها صندوق النقد الدولي في تقريره الدوري الأخير عن لبنان تنفيذاً للمادة الرابعة من نظامه، إذ ورد فيه حرفياً أن «تقييم الموظفين للعملية كان سلبياً، واحتاج السوق إلى وقت لاستيعاب آثار هذه العملية».

هذه الكلفة ترتبت على المجتمع اللبناني، بقرار اتخذه سلامة على مسؤوليته الشخصية، ولم يعرضه أصلاً على المجلس المركزي لمصرف لبنان، وتحوّلت الى أرباح مباشرة لعدد من المصارف وكبار المودعين، وتم استعمال القسم الأهم منها في زيادة ثروات عدد من أصحاب المصارف والمساهمين فيها، عبر زيادة الاموال الخاصة للمصارف (الرساميل التي يملكها هؤلاء)، وعبر إطفاء خسائر وتكوين مؤونات وزيادة الملاءة، كان يُفترض أن يجري تمويلها من الارباح السنوية المتكررة التي تحققها المصارف وليس من الارباح الاستثنائية التي جرى ضخّها من المال العام عبر «الهندسة المالية».

أدلة واعترافات

عملياً، وبحسب مطالعة «مديرية الشؤون القانونية» في مصرف لبنان، فإن «الهندسة المالية» كانت عملية مخالفة للقوانين النافذة، إذ يوجد ما يكفي من الادلة الدامغة على ان أحد أبرز اهدافها المعلنة والصريحة هو «تعزيز الاموال الخاصة للمصارف وتأمين ملاءتها»، أي ما اعتبرته المطالعة يتعدّى المهام المنوطة بمصرف لبنان وفقاً للقوانين النافذة.

ينقل تقرير صندوق النقد الدولي المذكور عن المسؤولين في مصرف لبنان (وجهة نظر السلطة) ان «هذه العملية المالية حققت أهدافاً عدّة، وساعدت في الحفاظ على الاستقرار المالي (…) وتعزيز القاعدة الرأسمالية للبنوك»، أي إن «تعزيز رساميل البنوك» لم يأت عرضياً، بل كان في صلب اهداف «الهندسة المالية».

كرر سلامة نفسه مرات عدة أن أحد الاهداف الرئيسة من هذه «الهندسة» هو «دعم ميزانيات المصارف». ففي الاول من ايلول الماضي، اضطر سلامة إلى إصدار بيان، معلناً أن مصرف لبنان «ابتدع هندسة مالية تهدف الى تعزيز الموجودات من العملات الاجنبية في لبنان والى توفير السيولة اللازمة لتدعيم ميزانيات المصارف والسيولة الضرورية لتمويل الاقتصاد اللبناني بقطاعيه الخاص والعام (…) وان هذه الخطة نجحت (…) وقد تحقق من خلالها:

أولاً: تدعيم لوضع الليرة اللبنانية.

ثانياً: تدعيم لميزانيات المصارف.

ثالثاً: زيادة في الودائع لدى القطاع المصرفي نظراً إلى التحاويل الخارجية التي أتت للمشاركة في هذه الهندسة.

رابعاً: توفر سيولة في الليرة اللبنانية هدفها الاول زيادة التسليفات لدى القطاع الخاص في وقت نعيش فيه نمواً اقتصادياً دون المطلوب ويتراوح بين 1% و2%».

ليس هذا فحسب، بل قال سلامة في البيان نفسه: «ان المجلس المركزي في مصرف لبنان اتخذ قراراً بتخصيص الاموال التي دخلت الى المصارف لتلبية حاجات IFRS 9. وسيبحث المجلس المركزي، بالتنسيق مع لجنة الرقابة على المصارف، امكانية تكوين ما بين 1% و2% كمؤونة عامة على المحفظة الائتمانية في القطاع المصرفي بالليرة اللبنانية وتبعاً لحاجة المصرف. أما ما تبقى من المداخيل المتأتية من هذه الهندسة، فسيبحث المجلس المركزي مع لجنة الرقابة على المصارف وجمعية المصارف آلية تحرر بموجبها المبالغ الفائضة الى ارباح المصارف، شرط ان تكون هذه المبالغ تساوي تسليفات جديدة تمنحها المصارف بالليرة اللبنانية الى القطاع الخاص».

إذاً، أقرّ سلامة بلسانه (وليس نقلاً عنه) بأن هدفاً رئيساً (حلّ في المرتبة الثانية وفق البيان أعلاه) من أهداف «الهندسة المالية» يرمي الى ضخ الاموال (الارباح) الى المصارف، من أجل تمويل زيادة رسملتها وملاءتها ومؤوناتها وتحقيق المزيد من الارباح… أي ما تعتبره مطالعة مديرية الشؤون القانونية مخالفاً للقوانين النافذة، جملة وتفصيلاً.

كرر سلامة إقراره بهذه «المخالفة» في أكثر من مناسبة لاحقاً، وعلى سبيل المثال ايضاً لا الحصر، أعلن في تصريح له إلى صحيفة «الحياة»، في 18 تشرين الاول الماضي، أن «نتائج الهندسة المالية (…) عززت موازنات المصارف، بحيث بات لديها ما يكفي من الأموال لمواجهة متطلبات الرسملة المطلوبة منا حتى عام 2018». وقال «اليوم إما يكون لديها (المصارف) مال للرسملة أو تخفف التسليف لمواجهة المتطلبات وتقليص الأخطار على رأس المال».

وأوضح «عندما نعزز موازنات المصارف، فهذا يعني أننا تركنا مجالاً لاستمرار تمويل الاقتصاد اللبناني وتسليفه، في وقت تحتاج كل المنطقة إلى أموال». وهذا التصريح يجسد دليلاً إضافياً على ان «الهندسة المالية» هدفت في الاساس الى تمويل زيادة رسملة المصارف وليس تأمين السيولة لها «عند الحاجة وفقاً لشروط خاصة وفي مقابل ضمانات»، بحسب ما خلصت اليه المطالعة القانونية المذكورة.

التعميم الوسيط رقم 446

لا حاجة إلى الاسترسال في تقديم المزيد من الادلة. تكفي مراجعة التعميم الوسيط رقم 446، الذي أصدره حاكم مصرف لبنان، في 30 كانون الاول 2016، والذي يتضمن القرار الوسيط رقم 12411، القاضي بتعديل القرار الاساسي رقم 7493. ينص هذا التعديل على إلغاء نص المادة الرابعة مكرر من القرار الصادر في تاريخ 24/12/1999، واستبداله بنص يطلب من المصارف استعمال الفائض (الربح) المحقق من «الهندسة المالية» لتأمين «المؤونة الاجمالية بالليرة اللبنانية (…) ومتطلبات نسب الملاءة (…) وأي متطلبات اضافية قد تنتج عن تطبيق المعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9 (IFRS) والتي تسري اعتباراً من تاريخ 1 كانون الثاني 2018 (…) ومؤونة بالليرة اللبنانية لمواجهة تدني مساهمات في الخارج (…) ومؤونة بالليرة اللبنانية لمواجهة تدني قيمة الشهرة الناتجة عن عمليات الدمج (…) وفي حال استمرار وجود فائض يمكن تحرير ما لا يزيد عن 70% من الفرق وتسجيله في حساب الارباح والخسائر، كأرباح غير قابلة للتوزيع قبل تخصيصه، وفقاً للحالة، كاحتياطي لزيادة الرأسمال يحتسب ضمن فئة حقوق حملة الاسهم العادية (…) لا تدخل زيادة الاموال الخاصة التي تنتج عن تطبيق أحكام هذا القرار في احتساب النسبة القصوى المحددة بـ60% لمراكز القطع الثابتة الدائنة (…)».

هذا القرار يعدّ دليلاً مادياً على أن حاكم مصرف لبنان تجاوز صلاحياته القانونية، بحسب ما خلصت اليه مطالعة «مديرية الشؤون القانونية»، وقام خلافاً للقوانين النافذة، ولا سيما قانون النقد والتسليف، بـ»استغلال السلطة أو ثقة الجماهير لتحقيق نفع خاص»، وهو التعريف الملطّف للفساد الذي يتبناه صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة الشفافية العالمية.

محمد زبيب

التعليقات مغلقة.