لم يستطع موظّفو مصرف لُبنان كظمَ غيظهم، «دقّوا بحقوقنا» كلمة أجمعَ على ذكرها كلّ من قرّرَ الجلوس في المنزل إنفاذاً لـ«مرسوم» الإضراب المفتوح الصادر عن أصحاب الرؤوس الحامية، وما دامَ الدق قد وصلَ إلى الجيوب والموس لامسَ اعتاب اللحى، وما دام «الدق بالحقوق» شيمة أصحاب السلطة، ما عاد على الموظّفين سوى الرّقص على حافةِ الهاوية!

حتّى أن الرّد العاصف الذي تدرّج منذ يوم السبت، تاريخ أوّل إضراب تحذيري في تاريخ نقابة موظّفي «مصرف لبنان»، بدا كأن لديه أكثر من أبٍ شرعي، بدليل جوقة المسوّقين لهذا الإجراء، فضلاً عن بروز أيادٍ خفيّة، تعمل من تحت طبقة الضجيج من أجل تمرير الإضراب.. واغراضها وغاياتها من وراءه، كأنّه رسالة حمّالة أوجه، يُمكن صرفها فى شتّى الجوارير!

الإضراب المفتوح الذي خلّف أضراراً بالغة، مسّ بشكلٍ مباشر السوق، ما أجبرَ «بورصة بيروت» على إغلاق تعاملاتها على تداولٍ منخفض، هذا الإجراء انسحبَ أيضاً على أكثرِ من جهة، المصارف رفعت صُراخها من إحتمال خلو محفظتها من العملة الصعبة، وسط معلومات جرى تداولها على أكثر من صعيد حول إمكانيّة أن تتسرّب المعاناة إلى ماكينات الصرافات الآلية ATM رئة اللبنانيين، إمتداداً إلى السّوق ، الذي شهدَ مزاحمة على الدولار، يقول خبراء أن البلاد لم تشهده إلا في فترة الحرب!

وعلى نحوٍ شديد الإزعاج، فُتِحَ التّفلت في السّوقِ على مصرعيه، بحيث شهدَ تداول الدولار في أكثر من سوق نشط، تقلّباً بحسب مزاج التاجر، بحيث لامسَ السعر ١٦٠٠ ليرة عن كل دولار (سعره في الأيام العاديّة لا يتجاوز ١٥٠٧)، بعدما أغلق التداول في تلك الأسواق نهاية الأسبوع الماضي على ١٥٥٠ ليرة!

ولعلّ أكثر ما نتجَ عن الإضراب، بصرف النظر عن التفاصيل الإقتصاديّة المملّة، ودفعَ بخبراء ومراقبين إلى وضعِ نتائجه على مشرحة البحث والدرس المتأنّي، كَمَنَ في ربط «شلّ السوق» بالمقولة الشهيرة التي راجت قبل مدّة، حول علاقة التوأمة الناشئة بين السّوق واستقرار الليرة ووجود رياض سلامة في سدّة الحاكميّة!

لقد ثبت لدى أكثر من معني، وجود قدرة هائلة لدى «مصرف لبنان» على شلّ السّوق بالكامل، ووضع لبنان تحت حصار يطال تأثيره كل جيبٍ أو زاوية تقريباً، وقد ظهرَ بشكلٍ واضح وفاقع، أنّ الدّولة اللبنانيّة بأمّها وأبوها ترزح تحت رحمة قرارات «المصرف المركزي» أو موظّفيه متى شاؤوا اتخاذها، ما لها أنّ تحوّل لبنان إلى «دولة سائبة» يَضيع فيها الإقتصاد بلحظة متى قرّرَ المصرف الإنقطاع عن العمل.

وإذا كانت تصرّفات «المصرف المركزي» مفهومة لشدّة تأثيره في المنحى الاقتصادي والسّياسي، كواحدة من نتائج تربّعه على عرش البلاد منذ ما بعد الحرب، فإن تأهّب «الجوقة الإعلاميّة» وتأدية فروض الإسناد الناري الذي يخدم توجّهات المصرف أو الموظفين أو من لف لفيفهم، أمرٌ يحمل على الالتفات والانتباه والحذر.

فمع ظهور ملامح أزمة في مقاصةِ الشيكات، بدا أن هناك مِقصّات من نوعٍ آخر، إعلاميّة، تعمل بالتوازي مع عمليّة إرضاخ السوق على قص القصص واسقاطها على الرأي العام، إلى جانب مقصّات شدّة الهمّة نحو تقطيع ما يمكن تقطيعه من مواد ونشرها عبر هذا الاثير أو ذاك، مما خلقَ مزيداً من الارباك، ورفعَ نسبة الخوف في النفوس، ودلّ إلى وجود ماكينة تعمل بالتوازي، تبدو جاهزة للتحرّك عن الإشارة.

وخلالَ مدّة سريان مفعول «العصيان المالي»، شهدت مواقع وصحف ووسائل إعلام على ممارسةِ أنواع من عمليّات الإبتزاز التي شُنت على السّوق اللُّبناني، وصولاً إلى إغراقهِ بالشائعات ما انعكس سلباً على سعر صرف الدولار عند التُجّار، وهز ثقة التّاجر بالليرة والسوق في آن، ومن جملة تفسيرات هذا التدبير «هجمة مواطنين» من أصحاب الودائع على المصارف، خشية على محاصيلهم!

وقياساً على يوم «الإضراب الطويل»، فإن أكثر ما ظهرَ إلى العيان، هو تلازم المصالح بين أكثر من فئة، إعلاميّة وماليّة وإقتصاديّة وسياسيّة، تظافرت جهودها سويّاً، ما اماطَ اللثام عن «لوبي ضغط» جاهز للتحرّك متى شاء أربابه، وهو ما استقبلته مجالس ومقار ومستويات بإهتمامٍ وحذر بالغين، خاصة لدى تلك المصنّفة على يسار «المصارف».

ووسط كل هذا الضجيج، أبدى مرجع رئاسي غضبه من المشهديّة التي حضرها اللبنانيون جميعاً، وقيام البعض بتسكير مرافق عامة، ما حمل خسائر ضارة، لا بل أنّه ومن وجهة نظره، ما حملتهُ افعال السّاعاتِ الماضيّة من رسائل يجدر التوقّف عندها وعدم تركها تمرّ بسهولة ومن دون أي التفات أو إجراء.

وبحسب معلومات «ليبانون ديبايت»، عبّر المرجع الرئاسي عن اعتقاده بوجود «فرقة إنقلاب جاهزة، يجدر بنا قراءة أفعالها بتأنٍ» واصفاً ما جرى خلال ساعات بأنّه «بروفا تحمل علامات يوم القيامة، وأن أدق توصيف هو البيان رقم واحد».

عبدالله قمح

التعليقات مغلقة.